العدد الرابع عشر ….النصف الثاني من شهر اب لعام ٢٠٢٣…النساء في الأدب: ضحايا للتمثيل السيء لا خالقات لصورتهن
يمتلئ الأدب العالمي بإنتاجات ذكورية تُهين النساء وتُقلل من مرتبتهن، لكن الكثيرات من الأديبات النسويات لم يسكتن عن هذا الوضع. فمثلاً حين صدر للبروفيسور فون إكس كتابه “المرتبة العقلية والأخلاقية الأدنى لجنس النساء”، وصفته فرجيينا وولف بأنه كرجل ثقيل البنية ذو فك سفلي عظيم، وعينين جد صغيرتين مجرد “رجل غاضب.” وفي سنة 1970، تصدت الناقدة كيت ميليت في كتاب “السياسات الجنسية” لصورة المرأة في أعمال كُتّاب مثل ده لورانس، وهنري ميلر التي “تُصّور النساء بأسلوب يعكس كراهية لهن في جميع الأحوال، عذراوات أو باردات أو مفرطات الشبق عاهرات”، وأطلقت على ذلك “التمثيل الوسواسي للعلاقات الجنسية”. وقد رأت ميليت أن لهذه الصورة وظيفة هي ” تبرير الهيمنة الجنسية للذكور واستمرار هذه الهيمنة.”
ومن التجارب العالمية التي تُمثل خيبة النساء في ستينيات القرن الماضي هي التجربة الفرنسية، ففي خضم ثورة الطلاب على حكومة ديجول، اكتشفت النساء أن رفاقهن الذكور الذين يتشدقون بكلام منمق عن الحرية والمساواة كتبوا البيانات دون إشراك النساء في هذه المهمة وليتركوا لهن مهام تقليدية كإعداد الشاي. هذا الإقصاء جعل النساء الفرنسيات يدركن ضرورة أن يمثلن أنفسهن بأنفسهن، باعتبار أن الرجال وحسب رواية شيرلي لشارلوت برونتي “يسيئون تمثيل النساء.” نجم عن هذا السياق من التجارب، مفهوم الأدب النسوي الذي يُمثل هموم المرأة ويخترق الخطاب السائد لا بخطاب مضاد بل من خلال تفكيكه وتبيين نواحي نقصه. ويسعى الأدب النسوي كما يقول محمد برادة إلى “مسائلة الرجل في قيمه الموروثة ومحاصرته بصورة المرأة المتحققة داخل حرية الكتابة بعيداً عن الصورة التي شيّدتها استيهاماته.”لكن الشكوك تنتابنا ونحن نطالع الروايات التي أنتجتها نسويات عربيات، فهي تتسم بالغضب أوالخفّة المتعمدة، ورغم محاولتهن اختراق اللغة وابتداع حريتهن الخاصة لكن هذا الاختراق تم بأسلحة ذكورية؛ فكتابات نوال السعداوي معادية للرجل وهي وبحسب لمي الدليمي “تقدم المرأة بصورة سلبية لا تعرف التعامل مع مشكلاتها وتكتب كامرأة. وهي غير واعية بدوافعها العميقة. فهي رفضت الظلم الذي يحيط بالمرأة ابتداء من روايتها (امرأة عند نقطة الصفر) كما انشغلت بتعرية وجه المرأة العربية وتفكيك تابو الجنس. وكشف الرغبات المقموعة وفضح العنف الهادئ والذي يشرع له بمسميات مختلفة كالعفة والشرف”. ورغم أهمية كتابات السعداوي وفضحها لنوع الكائنات المهزوزة والعلاقات النفعية التي ينتجها المجتمع الموبوء بالجهل والكذب إلا أن بعض الكتاب يتهمها بالتطرف، ويمكن وصفها بما وصفت به فرجيينا وولف الروائية الإنجليزية جين أوستن “سوف تكتب غاضبة حيث كان عليها الكتابة في هدوء، وسوف تكتب بحماقة حيث يجب الكتابة بحكمة، ستكتب عن نفسها حيث يجب عليها الكتابة عن شخصيات الرواية. إنها في حالة حرب مع قدرها وظروفها”.وقد عرضت فرجيينا وولف ببراعة في روايتها “غرفة تخص المرء وحده” مشكلات النساء؛ فقد بحثت في الظروف التي منعت النساء من إنتاج أدب يضاهي أدب الرجال، وعالجت بذكاء وبتحليل سيكولوجي العلاقة بين الطرفين وطالبت بالاستقلال المادي للمرأة وأضاءت على الصعوبات التي مرت بها كاتبات مثل جين أوستن وأميلي برونتي. واستطاعت وولف وضع يدها على أهم سببين لقهر النساء (الغضب وعقدة التفوق)، وسخرت من المزاعم الأبوية عن السلطة والمعرفة، ورفضت خطاب المقصورات الزجاجية والأكاديمية حيث توجد “عدالة خشنة وكاذبة”.وتتعدد الأمثلة التي تتناول قضايا النساء في الأدب السوري، فمثلاً في كتابات الروائية لينا هويان الحسن تبدو المرأة بصورة المغوية المشغولة بجمالها وتمارس كل أنواع النزق باسم الحرية حتى صارت (فضيحة تمشي على قدمين) فهي أول فتاة ترتدي البكيني، وتقود السيارة، وتجلس عارية أمام بيكاسو، لكنها تفشل في بناء مشروعها الفردي كذات وتعوض فشلها في جذب الرجال. وبذلك تهدم الكاتبة بيد ما أعطته باليد الأخرى. ويجنح السرد عندها لتصوير المرأة كآلهة معتدة بنفسها وينطبق عليها وصف بام موريسون “أن نبرة صوت المرأة المحايدة تنقل اعتداداً بالنفس مثيراً للأعصاب، فتباهيها بالانضباط الصارم وقول الحقيقة العارية وادعاؤها أن لها مكانة تضارع الآلهة يوحي أن صوتها صوت أبوي”. ويحاول الكاتب السوري خليل صويلح الانتقام من ذكورية التاريخ بكتابة أنثوية، تحضر فيها المرأة بقوة، لكنه لم ينج من نمذجتها فهي امرأة مقهورة أو عاهرة مستباحة أو حداثية متحررة، حتى النموذج الحداثي مآله الفشل فأغلب بطلاته ينتهين بالانتحار أو الهجرة.وينطبق قول شو والتر “بأن كتابات النساء تحاكي أساليب الذكور السائدة وتهضم قيمهم الجمالية والاجتماعية وتدمجها في ذاتها” على الكاتبة السورية سلوى النعيمي، فهي مشتتة بين رغبتها في قبول بنى المجتمع الأبوي ورفضها له. ففي روايتها “برهان العسل” هناك جرعة عالية من الحقد الذي يمور تحت سطح الجرأة، والتراث الذي استندت إليه في مجمله هو تراث أبوي ينظر للمرأة كمتاع حتى لو كان على لسان نساء فهو قد دوِّن بأقلام ذكورية، وعوضاً عن نقده والتنقيب في ظلاميته تتخذهُ دستوراً وإن كان هدفها لا يختلف عن هدف نوال السعداوي (فضح مجتمع النفاق والرياء)، وفيما أقصى جسد المرأة الحقيقي ظلت بوصفها جسد لمتعة الرجل موضوع المجاز الأدبي والتعبير الفني عندها.
ومن تجارب الأدب التركي، تجريه الكاتبة إليف شافاك التي استطاعت في روايات كـ”لقيطة اسطنبول” أن تُمثل محنة المرأة في انطلاقها من الخاص لعلاقته بالعام، فهي ومن السطر الأول تنطلق من التحرش الذي تتعرض له البطلة أثناء سيرها في الشارع، واغتصاب الأخ لأخته. وفي رواية “حليب أسود” تحفر إليف عميقاً في مسببات الاكتئاب ومعاناة المرأة.
لم تستطع الكاتبات النسويات المذكورات في هذا المقال أن يتعمقن في التمثيل السيء للذكور عن الإناث وكان يمكنهن ذلك بدراسة تراث مضاد يبحث في الصورة الإيجابية لا صورة النساء كإماء أو متعطشات لرغبات جسدية أو ناقمات يتحررن بأجسادهن. بل ربما توهم الكاتب عكس ما يهدف إليه لأنه “نادراً ما تتم الكتابة تحت التحكم الواعي التام للكاتب وعادة ما تحتوي نصاً تحتياً، لما لا يمكن أن يقوله أو يجرؤ على قوله” بحسب ميليت.
ينمو الجسد في الاختيار الحر، وهذا يصعب تحققه في هواء فاسد لذا “يجب تنقية هذا الهواء أولاً.” وتلك مهمة يقوم بها الأدب سواء كتبه رجال أم نساء. فكما يقول كولردج: “العقول العظيمة مزدوجة الجنس.” ونطرح على أنفسنا السؤال الذي طرحته وولف على ذاتها وهي تتصفح رواية ماري كارمايكل “مغامرة الحياة” عما إذا كانت تحمل بيدها قلماً أم معولاً؟