العدد السادس عشر ..النصف الثاني من شهر أيلول سبتمبر من عام ٢٠٢٣…المرأة في اعمال بيكاسو و كوخ و دالي
يشكل جسد المرأة على الدوام مادة رئيسية في أعمال الفنانين التشكيليين، طالما عكست طرق وأشكال تناوله وتصويره المختلفة اختلاف نظرة وأسلوب كل فنان عن الآخر، وأبرزت تنوع المدارس التشكيلية المختلفة، ورسخت في الذهن مفهوم الفن التشكيلي، كفن يتجاوز نسخ ما تراه العين إلى منطقة أكثر اتساعًا، تتعلق أكثر بإعمال الخيال في إعادة تشكيل ما تراه العين، ووضعه في سياقات مختلفة كليًا عن سياقاته المنطقية.
وتندرج الفنون كلها، بكل تنويعاتها وفروعها وتقسيماتها وفقًا للمذاهب المستحدثة والدراسات الإنسانية بمختلف جوانبها الفلسفية والنظرية والتطبيقية، تحت أحد أربعة أقسام رئيسية هي الفنون البصرية والموسيقية وفنون العمارة وفنون اللغة. في مقدمة الفنون البصرية يأتي الفن التشكيلي، وهو فن يختلف كليًا عن فن الرسم.
يمكن الاستدلال على الخط الفاصل بين الرسم والفن التشكيلي بالعودة إلى التنوع والتباين في تجسيد المرأة، فمثلًا تختلف المرأة في الحركة السيريالية والتي يمكن أخذ أعمال دالي للصورة الأنثوية كنموذج لها، عن امرأة بيكاسو التي تتفكك ملامحها تمامًا ويعاد صياغتها في اللوحة التكعيبية، والمرأتان تختلفان عن امرأة مودلياني أو دافنشي، وكل تلك النسخ تقف على مسافة بعيدة من نموذج الرسم البسيط المحدد الذي ينقل شكل امرأة كما هو دون أي تغيير.
بحلول عام 1928 اتجه سلفادور دالي إلى أسلوب أكثر تجريدًا في تصوير المرأة حيث بدأت النساء في لوحاته تتخذ تحولات وانشقاقات سيريالية محيرة، تختلف جذريًا عن الفترة التي سبقتها، عندما كانت شقيته أنا ماريا نموذجًا بارزًا لأعماله كما يصورها مثلًا في لوحه “ظهر فتاة” التي رسمها عام 1926.
ثم يختلف تناول دالي للإناث خلال الفترة السريالية، حيث يصير في بعض الأحيان مشبعًا بالإثارة الجنسية المزعجة، أو يستحضر تفاسير الأمومة و”الأنوثة الأبدية” استنادًا إلى الشخصيات الأسطورية.
وفي منتصف مشواره الفني، يتناول دالي الشخصيات النسائية فنيًا على أنها أداة للأقدار. تصبح صورة المرأة الطيفية المقدسة موضوعًا للهوس وتحرير القوى المكبوتة من الرغبة اللاواعية لديه. ثم تظهر زوجته جالا التي أصبحت نموذجه الحصري وسط تلك المرحلة، كنموذج جامع لكل السمات الطاغية في منظوره للنساء.
في تجربة تشكيلية أخرى كانت المرأة مادة لبيكاسو في مراحل فنية مختلفة، حيث ظهرت في أكثر من 60 لوحة شخصية حميمة وألهمت بعض فتراته التكعيبية بقوة. في البداية كانت رسوماته تخطيطية، مثل اسكتش بعنوان “رأس امرأة” لحبيبته فرناند أوليفر، ويوصف هذا المسار بأنه ذو طابع أكاديمي أكثر من كونه تشكيليًا، وهو ما يتماشى مع أعماله خلال الفترة من 1904 – 1906.
ويتجلى التطور التشكيلي للفنان والفارق الانتقالي من مرحلة الرسم للتشكيل عند العودة لبيكاسو مجددًا في المرحلة التكعيبية، بعد التطور التشكيلي للصورة الفنية الخاصة به، تأتي لوحة المرأة الباكية من تلك المرحلة في صورة تشكيلية مثيرة للتأويل والتأمل.
في هذه اللوحة يذيقك بيكاسو بؤس الحرب الأهلية الإسبانية كاملًا من خلال نمط التعقيد والتداخل والتكسير التكعيبي الذي ما كان إلا محاولة عفوية منه كي يجعلك تجد طعم ملح دموع هذه المرأة، فمثل العيون الباكية بزورقين يسبحان في بحر دمع جار ويكادان يغرقان من شدة الدفق حتى خلت عيناها من أثر التدفق.
ثم يمتص بيكاسو الألوان من فم المرأة وأسنانها ليبقي على اللون الأزرق كناية عن بحيرة أفرغت بها ما حررته. ثم راح بيكاسو بكل شغبه الفني يمثل الدمع كخرمشات تترك علامات على وجهها الباكي، ورسم سبب هذه الخرمشات، أي أصابعها، بطفولية محضة مع أظافر تفتقر للثقة قضمت المنديل من شدة الألم، مستخدمًا زواياه الحادة ومثلثاته للتعبير عن حدة شعور الأسى في هذا المشهد.
هذا التحطيم و التكسير للمفردات وإعادة صياغتها من جديد في قالب من الاستعارات والكنايات التي تشبه تلك التي تخلقها اللغة في نصوص من الشعر ومفردات الأدب صالحة للقراءة والتطويع، ما منح بيكاسو التفرد في لوحته التي حافظ في خلفيتها على خطوط مستقيمة ليركز المتأمل على مثلثاته المتكسرة حزنا على وجه امرأته الباكية.
من الرائع أن ننظر إلى كيفية تصوير بيكاسو للمرأة خلال حياته وكيف كان يمثلها في مراحل مختلفة، وكيف تعكس تطورات نسختها الفنية مسيرته وحياته الشخصية. حيث كل شيء حوله يبدو مترابطا مع أبطال لوحته ومطورًا لنظرته التشكيلية.
فوارق مفاهيمية
في الواقع العملي هناك فارق مفاهيمي وتطبيقي كبير بين الرسم والتشكيل، برغم أن كلا النموذجين (الرسام والفنان) لهما نفس القيمة ظاهريًا. بينما يختلف مفهوم التشكيل عن الرسم داخل اللوحة.
هو أن يقوم الرسام بنقل الواقع كما هو موجود في المقابل، دون إدخال أي إضافات إليه، ويستخدم لونا واحدا فقط أو عدة ألوان محاكية للمقابل، ولا يهم اللون أو مدلوله سواء أكان أحمرَ أو أزرقَ أو أخضرَ.. إلخ. يمكن اكتسابه وإدراك قواعده بالمران والممارسة المنتظمة. وهذا ما يسمى الرسم. الرسم يمكن تعليمه بخطوات أكاديمية يتبعها الشخص وتختلف المهارة من شخص لآخر، لكن الفن التشكيلي لا يُعلم، ويتخطى الموهبة وحدها. إنه أشبه بالمسّ والاكتشاف. لذلك تختلف أعمال الشخص الموهوب عن ذلك الممسوس بلمسة فارقة، عن ثالثهم الذي يتقن القواعد فقط.
وتأتي ما سميت بالمرحلة الزرقاء في حياة بيكاسو، كإحدى المراحل الفنية التي مثلت الرسم منفصلًا عن التشكيل في حياة أحد أهم الفنانين. استمرت هذه المرحلة لست سنوات، رسم خلالها العديد من اللوحات، نقل خلالها صورته عن واقع مقابل، وهنا أطلق اسم الرسم عليها، إضافة لاستخدام بيكاسو لونًا واحدًا؛ الأزرق ومشتقاته.
يختلف ذلك كليًا عن الفن التشكيلي واسع النطاق، حيث يمكن أخذ كل شيء من أرض الواقع وإعادة صياغته وتقديمه بشكل جديد وحر، قامته مستوحاة من فكرة جديدة، تشكيل أو تجسيد لشيء معيّن. الفنان التشكيلي هو الذي يحترف هذا الفن ويبدع فيه، ويقوم بأخذ التفاصيل المستوحاة من الواقع الذي يعيشه والمحيط الذي يمر بهِ وينقلها بصورة لا تلزم التطابق وبطريقة رؤيتهِ للأمر والمنهجيّة التي يتبعها ويصيغها بفكرة فريدة يجعلها مميزة عن غيرها من ملموسات الأصل، ولا يعقل تطوير القديم قبل إتقانه.
من الضروري بالنسبة للفنان التشكيلي أن يتقن في بداية حياته الفنية أدوات الرسم أولاً بشكل جيد، ثم يبدع فيه، ثم يغير ويضيف بعد ذلك كما يشاء، وهذا ما يشبه مقولة بيكاسو “اتقن قواعد الفن كمحترف حتى تكسره كفنان”.
وقد لا تكون التسمية ضرورية للعمل التشكيلي أحيانًا، لكنه غالبًا يريد إيصال فكرة معينة داخل الفنان، أو انطباع حسي وبصري عما يقوم بالتعبير عنه أو بنقله تشكيليًا. فكما اللغة هي نتاج حي لما بداخل من ينتجها، تصير الصورة هي لغة الفنان البصرية التي تخرج محملة بالمفاهيم من داخله. وتصير البصمة التشكيلية هوية مضافة لصاحبها.
الصورة التشكيلية وتكوين الهويّة
في المساحة التشكيلية وبعكس الرسم تتعدد أساليب الفنانين عندما تلتقط أعينهم مظاهر التكوين البصري في الطبيعة، بالطبع يلتقون في قاسم مشترك هو الجمال، لكن الأمر يتحول إلى مشاعر ورؤى فردية تجاه ذلك الشكل أو المنظر، مثلما حدث أيضًا مع الزهور.
من الفنانين التشكيليين من أعاد تقديم الزهور بحرفية وحساسية طبقا للأصل، ومنهم من سخر أسلوبه الفني وطوعه لإبراز جماليات الشكل دون الاعتماد على الأصل، وإنما التقاطه كعنصر ليعيد صياغته وتوظيفه على اللوحة. ثم أطلق العنان لمحيطه. أمام لغة الطبيعة وصورة الزهرة، يلاحظ أن بيكاسو رسم المزهرية بأسلوبه التكعيبي محطما بهذا التكوين كل القيم الفنية الأساسية في بناء اللوحة وهو الأسلوب الذي عرف به في كل لوحاته، لكنه أخرج اللوحة للمتلقي بملامح مختلفة تحمل الإحساس الآخر والجمال الفريد في التكوين دون مطابقة للواقع.
أما دالي فقد أخذها كما لو كانت حلما موازيا كما هي لوحاته المعروفة التي يعتمد فيها على تطرف الخيال المطلق، فوضع الوردة بكل جمالها في وضع غير مألوف بأن جعلها تسبح في الفضاء بين الأرض والسماء، في استيعاب بصري يحمل معاني كثيرة قد يكون منها سمو مكانتها في نفسه، مركزا على تفاصيلها وحدها ومهملا تفاصيل ما يقع على الأرض من منازل وخلافها.
شاعرية دالي المشبعة بالتطرف لا تتوقف عند حد، ولا يترك للمتلقي سهولة تفسير المعنى أو أن يمر مرور الكرام على اللوحة دون أن يتعمق ويبحث ويطرح التساؤلات، فنان غامض في أبعاد فكرة اللوحة صريح وصادق في التعامل مع دقة تنفيذها، لا يرتجل بقدر ما يحترم إمضاءه على اللوحة عند قناعته بها.
ثم يأتي الفنان فان جوخ بمزهريته الشهيرة زهور دوار الشمس التي كانت ولا زالت محط أنظار العالم بمزاجية ألوانها الذهبية الفاتنة التي أخذت مساحة واسعة من الاهتمام وروي عنها الكثير من الروايات، وعلاقتها بالموروث الصيني وما حظيت به من أسعار خيالية جعلت للمتاحف التي تقتنيها أهمية كبرى كما كانت مصدر كسب كبير لتجار الفنون.
هذا التنوع في التعبير والطرح لا يمكن أن يلغي جمال صورة الزهور أو العناصر بذاتها في واقعها الأصلي، بقدر ما يمنحها الأهمية البصرية من رؤية جديدة وزاوية جديدة، خصوصا إذا كان من قام بتوظيفها هو أحد أهل التشكيل ورواده