في التفسيرات النسوية للنص الديني

لا يُعنى هذا المقال، بداية، بإصدار أحكام نقدية، رفضًا أو قبولًا، لما تذهب إليه الاتجاهات النسوية، بل ما يعنينا هنا هو تقديم وصف لتاريخ نشأة التفسيرات النسوية للنص الديني، والهدف من هذه التفسيرات، والموقف النسوي من التراث، والمنهج الذي قامت عليه أغلب الدراسات النسوية للنص الديني.
ثمة أمر آخر ينبغي توضيحه يتعلق بالمقصود بالنص الديني في هذا المقال؛ فنظرًا إلى أن نشأة الاتجاهات النسوية ومن ثمّ تطورها كان غربيًا في الأساس، فإن النص الديني هنا يقصد به تحديدًا الكتاب المقدس، وما سبقه من تراث يهودي، أو مسيحي، أثر في فهم الكتاب المقدس لدى مسيحيي الغرب.

1 ـ نشأة التفسير النسوي

ظل العمل اللاهوتي، وتفسير النص الديني، تحت هيمنة الرجل حتى وقت متأخر من نهايات القرن الـ 19، لكن هذا الوضع بدأ في التغيّر تدريجيًا مع ازدياد شعور المرأة بالتهميش في المجالات المختلفة، ومنها بالطبع المؤسسة الدينية، ومن ثم بدأت المرأة السعي من أجل تغيير هذا الواقع عن طريق إعادة قراءة النص الديني بما يتناسب مع هذا الهدف(1).
وقد أدى إدراك النسويات الأوائل لأهمية تفسير النص الديني وقوته وانعكاسه على حياة المرأة إلى دفعهن إلى المشاركة في مجال التفسير. ولأن ظهور الحركات النسوية بدأ في المجتمعات المسيحية في الغرب، كان من الطبيعي أن يكون الكتاب المقدس هو بؤرة تركيز هذه الحركات منذ بداياتها الأولى.

وفقًا للسياق التاريخي، كان تهميش المرأة وعزلها عن المجتمع، ومنعها من اقتحام مجالات معينة، يعتمد على تفسيرات ذكورية لنصوص الكتاب المقدس؛ حيث كان النظام الأبوي عند باربرا زيكموند، وكارولين جيفورد، ناتجًا عن سوء فهم للنص، وسوء تفسير للواقع التاريخي، ومن ثم كان من الضروري تقديم قراءة نسوية أكثر قبولًا، وأكثر مصداقية، لفهم الواقع الذي تحدثت عنه النصوص(2).
كان على المرأة، إذًا، العمل على محاولة تخطي هذا الإطار الذي وضعت في داخله، بفعل تفسير النص الديني للكتاب المقدس، لكن كان عليها أن تتحين الوقت المناسب للمشاركة في فعاليات المجتمع التي ظلت دائمًا محرومة منها. والأرجح أن هذا التحوّل في تفاعل المرأة ودخولها في المجالات المختلفة ارتبط بالحروب الكبرى التي خاضتها البشرية. فمع الحرب العالمية الأولى، أقحمت المرأة في مجالات الحياة المختلفة، لتعويض غياب الرجل، وانشغاله في الحرب. هذا الوضع تعمق أكثر مع الحرب العالمية الثانية، لتخرج المرأة وتشارك في كل المجالات، بما فيها دراسة اللاهوت. وكان لذلك انعكاسه بالطبع على ازدهار مجال الدراسة النسوية للدين، وإعادة تفسير نصوصه لتتناسب مع وضع المرأة الجديد.
أما المحاولات السابقة التي قامت بها بعض الباحثات من أجل تحرير المرأة من قيد النص الديني ـ طبقا لألفاظهن ـ للكتاب المقدس، وما ارتبط به من تراث، فقد كانت محاولات فردية قامت بها نساء كان لديهن قصب السبق في الإشارة إلى حالة الغبن التي تعرضت لها المرأة في التراث الديني اليهودي والمسيحي، والتي كانت توظف لتهميش دور المرأة، ومن ثم سعت هؤلاء الباحثات لتغييرها.
كانت إليزابيث ستانتون رائدة في مجال تفسير الكتاب المقدس تفسيرًا نسويًا؛ حيث رأت ضرورة إيجاد عمل ما لمواجهة قوة الكتاب المقدس “الجائرة” ضد المرأة، وعاونتها في ذلك ست وعشرون امرأة لوضع تفسيراتهن على النصوص المرتبطة بالمرأة في أسفار الكتاب المقدس كله، وجاء تحت عنوان “The Woman’s Bible/ كتاب المرأة المقدس”، وصدر في نهاية القرن التاسع عشر. وأعلنت ستانتون من خلاله أن “الوقت قد حان لقراءة الكتاب المقدس كأي كتاب آخر، فنقبل منه، أو نرفض، حسبما يقدم من خير أو شر”(3).
لم يكن ما قامت به ستانتون يعني أننا أمام عمل نسوي متواصل، فقد ظلت مثل هذه الأعمال محاولات فردية، وجزرًا منفصلة، ولم نكن أمام رؤية واضحة تؤسس لعمل مستمر. ولم تشهد التفسيرات النسوية للكتاب المقدس قفزة نوعية إلا مع النصف الثاني للقرن العشرين. وتعد دعوة مارجريت ب. كروك في كتابها “Women and Religion/ المرأة والدين”، الصادر في 1964، لكسر احتكار الرجل لمجال دراسة الكتاب المقدس، وضرورة مشاركة المرأة في تشكيل الفكر الديني ورموزه وتراثه، من أولى المحاولات التي قامت بها باحثة امرأة في هذا المجال في ذلك الوقت تحديدًا(4).
ورغم أن نشأة التفسيرات النسوية كانت مرتبطة بالسياق التاريخي، وظلم المرأة، إلا أن بعضهم سعى لعدم الربط بين النشأة وبين الاتجاه نفسه كاتجاه علمي جديد في دراسة الكتاب المقدس. وتحدثت هيرشل شانكس عن أن النسوية ليست أمرًا ثوريًا، بل اتجاه لدراسة النص الديني(5)، وبالتالي قبول بعض دارسات الكتاب المقدس من النسويات أن يكون ما يطرح منطقيًا عند الرجل والمرأة على السواء، مثلما فعلت فيليس بيرد(6)، بل وإمكانية أن يسهم الرجل في التفسير النسوي، وأن يستخدمه الرجل والمرأة على السواء مثلما فعلت د. ن. فيويل(7).

2 – الموقف النسوي من التراث

أجملت كارولين أوسيك موقف الحركات النسوية من التراث في خمسة اتجاهات؛ أولها اتجاه يرفض مرجعية الكتاب المقدس، ويرفض كذلك كل التراث الديني الذي يشتمل عليه. وينظر أصحاب هذا الاتجاه إلى التراث اليهودي المسيحي كله على أنه مشوه، ومعاد للمرأة. ثانيها اتجاه مخلص للكتاب المقدس، ويؤمن بمرجعيته، لكنه يرى أن مشكلة الظلم الذي وقع على المرأة ليست في النص، بل في التفسيرات التراثية، وما تبناه المفسرون المحدثون منها. ثالثها اتجاه تعديلي يقر بالسمة الأبوية للنص والتراث، لكنه يرجعها إلى الظرف التاريخي والسياق الثقافي، لا إلى جوهر النص وطبيعته اللاهوتية، ويحاول علاج ذلك بالسعي لاستكشاف المصادر التي أهملها الأقدمون، والتي تظهر مكانة المرأة. رابعها يبحث عن الأنثى بحثًا رمزيًا، فيتحدث عن إسرائيل على أنها العذراء زوجة الرب وهكذا. أما آخرها فاتجاه متحرر فهم أن صلب رسالة الكتاب المقدس اللاهوتية هو التحرير؛ وانطلق من هذا ليرفض النصوص، أو المواد التراثية، التي تنكر أن تكون المرأة إنسانًا بالمفهوم الكامل للكلمة، وهذا الاتجاه يعيد تكرار كل رواية حملت كرهًا، أو اعتداء على المرأة، من أجل تذكر الماضي، وعدم الوقوع في أخطائه(8).

ثمة تصنيف آخر لا يختلف كثيرًا عن السابق وضعته كاثرين ساكنفيلد؛ حيث قسمت مواقف الحركات النسوية من تراث الكتاب المقدس إلى أربعة؛ الأول ينظر للنصوص المعادية للمرأة، ويقيمها ليأخذ رد فعل ضدها، والثاني يرفض الأسفار المقدسة، ولا يعتد بمرجعيتها، وهذا وصل به الأمر للنظر إلى الكتاب المقدس على أنه نوعي sexist، ويروّج للذكر، والثالث يحاول التعامل مع الكتاب المقدس إجمالًا للخروج برؤية أكثر تحررًا لصالح المرأة، والأخير يدرس النصوص المتعلقة بالمرأة ليتعلم من نقاط الالتقاء بين القصص القديمة والحديثة حول المرأة التي تحيا في ظل ثقافات أبوية(9).
تضيف فيليس تريبل اتجاهًا خامسًا للاتجاهات السابقة؛ إذ ترى أن الكتاب المقدس لم يقصد مطلقًا خلق نظام أبوي، بل هدف ليكون تخليصًا للرجل والمرأة على السواء، وتشير إلى أن الحركة النسوية أخطأت حينما استبعدت الكتاب المقدس بدعوى تشجيعه على الاضطهاد؛ لأن ذلك يعني تقبلها للتفسيرات الذكورية المتطرفة، وتستسلم بالتالي لما كانت تعترض عليه، ومن ثم تقترح تريبل طريقًا آخر بإعادة قراءة الأسفار المقدسة من دون الغمامة التي سعى رجال بني إسرائيل قديمًا لوضعها، وأن نقرأ الكتاب المقدس بعيدًا عن مسألة الجنس والنوع(10).
من ناحيتها، حاولت م. بال وضع معيار للتعرف على نوع كاتب المواد التراثية من خلال استخدام النوع “gender”، كأحد وسائل تفسير النص؛ وناقشت كيف أن هذا التوجه قد يسهم في تحديد نوع المتحدث في المادة التراثية؛ وطبقًا لرأيها، فإن النوع الأدبي الذي تهتم المرأة بكتابته يميل إلى التركيز على القرية والعائلة، وأن يكون شعريًا، ويقدم تفاصيل محدودة، أما الأنواع الأدبية التي ينتجها الرجل فتميل للتركيز على المغامرة، وتأخذ الطابع الملحمي إلى جانب وفرة التفاصيل(11).

وتلفت كارول مايرز الانتباه إلى ضرورة أن نضع بعين الاعتبار تباين فهم النص في إسرائيل القديمة عن الفهم الذي أدركه رجال الدين اليهودي والمسيحي؛ حيث تعامل معه القدماء وفقا للتحديات التي أثرت عليهم في فهم عالمهم، بينما تعامل معه المحدثون بمنطق التسليم الاعتقادي. ولذلك فإنها ترى ضرورة معرفة التراث التفسيري اليهودي المسيحي وتنحيته جانبًا كي يتسنى لنا الوصول إلى المعنى الحقيقي للنص؛ لأن اطلاع اللاهوتيين المحدثين على هذا التراث أدى إلى فهمهم للنص فهمًا مغلوطًا(12).
لذلك اهتمت مايرز بإبراز السياق العام للشرق الأدنى القديم، وهو السياق الذي ظهر فيه الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد؛ وقد ذهبت إلى أن عدم الإشارة إلى تمتع المرأة بحق الملكية لم يكن يعني أبوية المجتمع، أو تبعية المرأة للرجل؛ فاعتماد المجتمع على الزراعة كان يتطلب مشاركة المرأة بفعالية، ولذلك فإن بعض نصوص سفر التكوين تكشف عن دور المرأة في الإنتاج، وفي المحافظة على النسل، وهي أدوار حتمية لاستمرار الحياة الريفية. وهذا يعني أن المرأة أسهمت في تشكيل الأجيال التالية اجتماعيًا ودينيًا وتعليميًا، وأن العلاقة بين الرجل والمرأة كانت قائمة على المساواة، وإكمال كل منهما للآخر. وهذا الوضع سيتغير مع مركزية السلطة بظهور الملكية، وبناء الهيكل، في القرن العاشر ق. م، لكنه سيبقى كما هو كلما ابتعدنا عن المدينة، وكلما كان المجتمع يميل للزراعة؛ حيث ظلت المرأة مشاركة بشكل فعال(13).
يقول يهودا أليتسور إن الكتاب المقدس يساوي بين قيمة الرجل والمرأة معنويًا، إلا أن التمايز الحاصل يعود إلى اختلاف الدور المنوط بهما، لأن المساواة في هذه الحالة تعني الظلم. وهو طرح تنتقده كثير من النسويات؛ لأن هذه الفكرة هي التي جعلت الحاخامات ورجال الدين يضعون تشريعات تظلم المرأة بحجة الاختلاف الطبيعي بين الجنسين، وحتى عندما تحاول إنصاف المرأة فإن ذلك يكون تفضلًا يعطيه الأقوياء للضعفاء. كما أن هذا الطرح كان يعني التسليم بالتعامل مع التراث الذكوري من دون حديث عن ما قدمته المرأة في هذا التراث، وهذا لم يكن متفقًا مع توجهات هذه الحركات التي كانت تبحث عن إسهام المرأة في النصوص القديمة(14).

لقد تساءل بعض الدارسين صراحة عمّا إذا كان هنالك أي جزء من الكتاب المقدس قد كتب بواسطة امرأة، أو عدة نساء. وذهب هارولد بلوم، الأستاذ في جامعة ييل، إلى أن بعض مواضع سفر التكوين التي تركز على بطلات النص أكثر من تركيزها على أبطاله ربما كتبت بواسطة نساء(15)، حيث تظهر المرأة قوية الشخصية، حتى أن إبراهيم (عليه السلام) في كثير من المواقف لا يتصرف إلا بعد أخذ رأي سارة، إلى درجة أن الرب يأمره بتنفيذ كل ما تقوله سارة “في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها” (تكوين 21: 12). مثل هذه الشخصيات النسائية القوية تتكرر في مواضع أخرى، كرفقة، زوجة إسحاق عليه السلام، أو راحاب الزانية، وغيرهن، مما يرجح أن يكون ذلك بمثابة تراث كتب بواسطة امرأة(16).
هذا الوضع الجيد لهؤلاء النساء لا يعني أن هذا التراث كتب على يد النساء؛ إذ لم تكن الكتابة منتشرة إلا في أضيق الحدود، وعادة كانت الكتابة وظيفة يقوم بها كتاب من الرجال يعينون للعمل في البلاط الملكي، أو في الهيكل.

3- أهداف التفسيرات النسوية

الهدف الأكبر للتفسيرات النسوية هو الارتقاء بمكانة المرأة، وتفعيل مشاركتها في المجالات كافة، ولما كانت إحدى العقبات الأساسية لتحقيق هذا الهدف هو التراث الديني نفسه، كان التعامل مع هذا التراث، وطريقة قراءته، هدفًا يصب في مصلحة الهدف الأكبر. وهذا جعل الحركات النسوية تهتم بتفكيك التراث المرتكز على رؤية الذكر؛ والذي يتجاهل قضايا المرأة واهتماماتها، أو في أفضل الحالات يعرض لقضاياها من خلال خبراته الذكورية. ومن هنا دعت الحركات النسوية إلى قراءة التراث قراءة تنطلق من رؤية أنثوية(17). وفي السياق نفسه، تبنت الحركات النسوية استراتيجية تروج إلى أن النصوص المتوارثة عبر الأجيال وتفسيراتها المتناقلة نشأت في الأصل كانعكاس لأوضاع اجتماعية هيمن الرجل فيها على كل شيء، وهذا بدوره أدى إلى تأثير التحيز الذكوري وأيديولوجيته في فهم المعنى العام. ولم يقتصر الأمر على الترويج لما قيل عن المرأة، مما يكون من شأنه التقليل من احترامها الإنساني، بل تعدى ذلك إلى السكوت عن تراث يعلي من شأن المرأة من أجل التأكيد على ثانوية مكانتها؛ حيث جرى إهمال تجاربهن اللاهوتية(18).
فالرجل هو الذي حدد وظيفة المرأة، وهو الذي وضع المعايير التي يحكم بها على مدى نجاح المرأة، أو فشلها، وهو نفسه الذي يحدد من خلال النص الديني متى تكون المرأة صالحة، ومتى تكون سيئة(19). وعندما تصور المرأة كقائدة، أو بطلة، مثل دبورا في سفر القضاة، فإنها تصور بالطريقة التي يتخيل الرجل بها معنى البطولة(20). كما أن الأم يختصر دورها في مجرد الإنجاب؛ حيث يبدأ دورها وينتهي بعد إنجابها الذكور(21). هذا دعا بعض المفسرات النسويات إلى إعادة التفكير في الاستمرار في قراءة نصوص معينة تحكي قصصًا عن تهميش النساء، أو اضطهادهن؛ كقصة اغتصاب تمار في سفر التكوين 34،.. وغيرها(22).
هنالك هدف آخر يرتكز على دور القارئ، وطريقة فهمه للنص، وهنا تعتمد التفسيرات النسوية للكتاب المقدس على نظرية استجابة القارئ، حيث تتكون ردود فعل مختلفة لدى القراء عند قراءتهم للنص نفسه؛ وترفض هذه النظرية فكرة أن للنص معنى محددًا وواحدًا. ولذلك يصبح لكل مجموعة من القراء فهمها الخاص حسب ثقافتها، ومن ثم تتعدد لدينا القراءات للنص الواحد، وتكون متساوية في قيمتها، وعلى هذا الأساس نشأت التفسيرات المتحررة والنفسية والنسوية.

هنا تنبه ميكي بال إلى أن ما نقرأه هو ما نريد للنص أن يعنيه، وليس بالضرورة أن نتقبل التفسيرات الأبوية؛ فإذا نظرنا إلى قصص مثل شمشون ودليلة، أو بوعز وراعوث، سنكتشف كيف أثرت المرأة في أفعال الرجل بوضوح(23).
تقدم بال نموذجًا آخر لقوة المرأة في قصص الكتاب المقدس؛ إذ يحكي سفر القضاة عن مقتل ثلاث نساء على أيدي رجال، كما يحكي أيضًا عن مقتل ثلاثة رجال على أيدي نساء؛ وتوضح طبقًا لمنظورها النسوي الفروق بين الاثنين، فالنساء المقتولات كن ضعيفات وبلا حول، بينما كان الرجال الثلاثة المقتولون قادة عسكريين، كذلك فقد كان الفارق بين القتل في الحالتين هو الفرق بين القوة والإغواء(24).
بالنظرية نفسها، أيضًا، سوف نكتشف أن سفر الخروج يقدم لنا نموذجًا واضحًا عن تحرر المرأة؛ فابنة فرعون رفضت الانصياع لأبيها، وكانت سببًا في نجاة موسى عليه السلام. فإذا كان هذا الدين الأبوي الذي أوجد قصصًا نسوية كهذه، وحفظها، فإنه يشتمل على ما يتخطى فكرة الأبوية(25).
نظرية استجابة القارئ، إذن، حسبما تقول ويمز، تعتمد على إمكانية توجيه القارئ بطريقة ما، وحثه ليكون حكمًا على النص، وأن ينتقده من دون تردد منه في ذلك، حتى لو كان حكمه ضد هذه النصوص التي درج العالم على قراءتها على أنها رؤية الرب لتحرير العالم(26).
هذا يعني ضرورة التركيز على دور قارئ الكتاب المقدس؛ فالناس هم من لديهم القدرة على الظلم؛ ورغم أننا درجنا على الحديث عن النصوص التي تكرس للظلم، إلا أنه يجب أن نضع في الحسبان أن النصوص تصبح ظالمة حسب الطريقة التي يستخدمها الناس(27). على هذا الأساس، فإن أ. رينهارتز، و م. ت. واكر، تشيران إلى أن التركيز على دور القارئ من شأنه تجاوز بعض المشكلات التاريخية التي يمكن أن تؤثر على واقعنا الحالي(28).

4- منهج التفسيرات النسوية

لا تعتمد التفسيرات النسوية على منهج واضح المعالم؛ فهي في أغلبها تفسيرات تهتم بالتعامل مع نصوص الكتاب المقدس من دون رابط منهجي سوى الرغبة في إبراز ما تعرضت له المرأة من ظلم، أو إبراز دور المرأة في القصص القديمة، وطبيعة مهامها في المجتمع، وحجم مشاركتها فيه، وإن كانت أسهمت في إنتاج التراث أم لا. وفي هذا الإطار، تؤكد إستير فوكس أن هنالك دراسات نسوية هامة، وتفسيرات لنصوص عديدة في الكتاب المقدس، لكنها تفتقد إلى التفكير النظري، كما تفتقد إلى منهجية حقيقية؛ بحيث عُدَّ تفسير نص ما هو هدف في حد ذاته(29).
قد يؤشر ذلك إلى أن التفسيرات النسوية تقوم أساسًا على فكرة عاطفية ترى أن المرأة قد ظلمت طوال الوقت نتيجة النظام الأبوي، ولذلك فإن مهمة التفسيرات النسوية، حسبما تقول م. ديوب، هي تحرير المرأة من ذلك النظام وهيمنته، ولذلك فإنهم يقرأون الكتاب المقدس، وكذا كل نص ديني، بطريقة غير تقليدية، لتخليص النص من حالته الأبوية(30). وهذا يعني أننا لسنا بصدد منهج واضح المعالم لهذه التفسيرات.
وتعود نشأة أبرز النظريات التي تهيمن على مجال دراسات الكتاب المقدس إلى أواخر سبعينيات، وأوائل ثمانينيات، القرن الماضي؛ وترصد النسويات ثلاثة اتجاهات كبرى في هذا السياق: أولها: يركز على تجارب المرأة التاريخية وانعكاسها على وضع المرأة الثقافي ودورها. ويبحث أصحاب هذا الاتجاه عن أي بقايا لنشاطات قامت بها المرأة، فيعيدون إحياء المواد التراثية التي تظهر فعالية دور المرأة. كما أنهم يركزون على النصوص التي تعكس مكانة المرأة التاريخية وقوتها. ويزعم هؤلاء أن مثل هذه النصوص تحمل تعبيرات أنثوية واضحة، ما يرجح أن تكون قد كتبت بواسطة نساء(31).

الاتجاه الثاني يقبل فرضية أن الكتاب المقدس كتبه رجال، لكنه مع ذلك يقدم صورة لحياة المرأة قديمًا تتجاوز الصورة النمطية البسيطة، فيعرض صورًا متنوعة أصيلة، بمعنى أن المرأة ظهرت كقائدة مؤثرة، مثلما ظهرت، أيضًا، كتابعة وخاضعة. ويسلم أصحاب هذا الاتجاه بأن الكتاب المقدس يرتكز على مفاهيم ذكورية هي انعكاس لحضارات الشرق الأدنى القديم، ولهذا فقد وجدوا فيه ـ حسب رؤيتهم ـ صوت الرجل والمرأة على السواء، مع الوضع في الاعتبار أن السياق الذكوري العام أسكت الصوت النسائي إلى حد كبير، ما يعني أن النص قابل للتفسير وتعدد الرؤى. وهنا تبرز قضية التركيز على القارئ بدرجة أكبر من تركيزهم على كاتب النص(32).

وينطلق أصحاب الاتجاه الأخير من فرضية أن كتابة الكتاب المقدس، وتحريره، وانتقاله من جيل لآخر، وصياغته النهائية، كلها عمليات تمت على يد الرجل، ومؤسسات تكرس لسيطرته الاجتماعية وهيمنته. وبذلك، خلق الفارق الطبقي بين الجنسين، وأورثه لقرائه على أنه من المسلمات. بذلك، فإن هذا الاتجاه يكون قائمًا على الشك في نيات كتابه ومسؤوليتهم عن الظلم القائم على اختلاف النوع. وذلك يعني أن هذا الاتجاه ينظر إلى الكتاب المقدس لا على أنه نتاج لثقافة تتمركز حول الرجل، وتهمش دور المرأة، بل أيضًا على أنه هو (أي الرجل) من أوجد هذه الثقافة مستبدلًا إياها بثقافة قديمة كانت تعظم النساء، وتجعل لهن مكانة لا تقل عن مكانة الرجل(33).
ثمة تقسيم آخر لاتجاهين؛ أحدهما النسوية الموضوعية التي تسعى لاستعادة صوت المرأة، أو تنتقد اضطهادها داخل النصوص التي تنتمي لثقافة ذكورية، والآخر نسوية استراتيجية تسعى لقراءة النص بفهم مغاير لما أسسته الثقافة الأبوية(34).
وهنالك تقسيم ثنائي آخر يشبه سابقه إلى حد كبير، وهو يقسم التفسيرات النسوية إلى اتجاهين كبيرين أحدهما إصلاحي له موقف إيجابي من الكتاب المقدس، والآخر متشدد، وله موقف يصل إلى حد الرفض(35).
أي أننا أمام اتجاهين رئيسيين أحدهما اختار أن يبقى داخل تراث الكتاب المقدس ونصوصه محافظًا على قناعاته الدينية، والآخر رأى ضرورة تحليل التراث ونقده من الخارج. وأكثر العاملين في مجال التفسيرات النسوية ينتمون إلى الاتجاه الأول، مع ملاحظة أن أصحاب الاتجاه الثاني يتزايدون بوضوح نتيجة ازدياد التساؤلات التي أصبحت تتحدث عن مدى إمكانية الإبقاء على الكتاب المقدس كمرجعية.
بهذا، نكون أمام استراتيجيتين في التعامل مع الكتاب المقدس حسب التفسيرات النسوية، الأولى ترى أن المشكلة الأساسية ليست في النص نفسه، بل في التفسيرات الأبوية التي كتبت عنه، أما الاستراتيجية الأخرى فترى أن المشكلة تمتد لتصل إلى النص نفسه.

*أستاذ في جامعة القاهرة.

مراجع وهوامش:

1- B. B. Zikmund: Feminist Consciousness in Historical Perspective. in: Feminist Interpretation of the Bible. Ed. L. Russel. Westminster Press, Philadelphia. 1985. P. 21 – 22.
2- J. D. H. Amador: Feminist Biblical Hermeneutics; A Failure of Theoretical Nerve. Journal of the American Academy of Religion. Vol. 66, No. 1 Oxford University Press. New York 1998. P. 47-48.
3 – E. C. Stanton: The Woman’s Bible. Part 2, European Pub. Company, New York. 1898. P. 8.
4 – E. S. Fiorenza: The Ethics of Biblical Interpretation; Decentering Biblical Scholarship. JBL. Vol. 107, No. 1. 1988. P. 8.
5 – E. Fuchs: Men In Biblical Feminist Scholarship. Journal of Feminist Studies in Religion, Vol. 19, No. 2. 2003. P. 94.
6 – Ibid: P. 96.
7 – Ibid: P. 98 – 99, 103.
8 – Amador: P. 44 – 45.
9 – L. Russel: Introduction. in: Feminist Interpretation of the Bible. P. 14 – 15.
10 – P. Trible: Depatriarchalizing in Biblical Interpretation. Journal of the American Academy of Religion, Vol. 41, No. 1. 1973. P. 31.
11 – E. Fuchs: Feminist Approaches to the Hebrew Bible. in: The Hebrew Bible; New Insights and Scholarship. Ed. F. E. Greenspahn. New York University Press, New York 2008. P. 84.
12 – & Wallhead: P. 149.
13 – C. Meyers: Discovering Eve; Ancient Israelite Women in Context. Oxford University Press, New York 1988. P.73 – 74.
14 – Fuchs: Feminist Approaches to the Hebrew Bible. P. 85-86.
15 – C. Murphy: Is the Bible Bad News for Women?. The Wilson Quarterly Vol. 22, No. 3, 1998. P. 21.
16 – Murphy: P. 23-24.
17 – ע. שטיינזלץ: נשים במקרא. דפוס ניידט, ת״א, 1983. ע׳ 16.
י. אליצור: ישראל והמקרא. הוצאת אוניברסיטת בר-אילן, רמת-גן 2000. ע׳ 314 – 324.
18 – N. Bunnin & J. Yu: The Blackwell Dictionary of Western Philosophy. Blackwell Pub. Oxford 2004. P. 31, 254.
19 – A. Clifford: Feminist Hermeneutics, in: The New Catholic Encyclopedia. 2nd edition, Vol. 5. Gale, New York. 2003. P. 674.
20 – R. Weems: Proverbs 31 in a New Interpretation. in: Feminist Interpretation of the Bible and the Hermeneutics of Liberation. P. 18.
19 – Fuchs: Feminist Approaches to the Hebrew Bible. P. 81.
21 – Ibid: P. 82.
22 – R. J. Weems: Re-Reading for Liberation, African American Women and the Bible. in: Feminist Interpretation of the Bible and the Hermeneutics of Liberation. P. 28.
23 – M. Bal: Lethal Love; Feminist Literary Readings of Biblical Love Stories. Review by: Edward L. Greenstein. The Journal of Religion, Vol. 69, No. 3 1989. P. 395 – 396.
24 – Wallhead: P. 150-151.
25 – Trible: P. 34.
26 – Weems: Re-Reading for Liberation. P. 31.
27 – A. Reinhartz & M. T. Wacker: Some Reflections on Feminist Biblical Hermeneutics for Liberation. in: Feminist Interpretation of the Bible and the Hermeneutics of Liberation. P. 40-41.
28 – A. Reinhartz & M. T. Wacker: P. 46.
29 – Ibid: P. 77.
30 – M. W. Dube: Jumping the Fire with Judith; Postcolonial Feminist Hermeneutics of Liberation. in: Feminist Interpretation of the Bible and the Hermeneutics of Liberation. P. 62 – 63.
31 – Fuchs: Feminist Approaches to the Hebrew Bible. P. 77.
32 – Ibid: P. 78.
33 – Ibid: P. 78-79.
34 – D. Boyarin: The Politics of Biblical Narratology; Reading the Bible like/as a Woman. Diacritics. Vol. 20, No. 4. John Hopkins University Press. P. 31.
35 – Wallhead: P. 148 – 149.

عن مقال لاحمد الجندي بتصرف ..هيئة تحرير حواء .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »