الفن “أرق” الأدوات و”أقواها” بيد نساء شمال غرب سوريا
في الأزمات والحروب، تتنوع أساليب التعبير عن الظروف والأحداث، وهذا ينطبق على الثورة السورية، التي برز فيها الفن، باعتباره “لغة تواصل عالمية” حاولت نساء استخدامها لإيصال رسائل إلى الشعوب أو التضامن مع ققضاياهم.
يافا دياب تنفذ رسم جرافيتي للأطفال في مدرسة بمدينة بنش، في ريف إدلب، 01/ 11/ 2021، (شقيقة يافا دياب)
إدلب- “أبحث عن أي سطح قابل لاستقبال اللون، أو باهت حتى أحييه بالألوان”، بهذه الكلمات عبرت الرسامة يافا دياب، من بنش بريف إدلب، شمال غرب سوريا، عن شغفها بالفن الذي عاشت قصة حب معه منذ صغرها ورافقها في السلم والحرب.نشأت دياب، 25 عاماً، على حب الفن منذ الطفولة، مترجمة هذا الحب إلى رسومات عن الجمال، كالورود والعصافير والطبيعة، إلى أن اندلعت الثورة السورية في آذار/ 2011، التي غيرت مسارها الفني.
لم تتخلى دياب عن ريشتها، ولكن حولتها إلى “وسيلة أدعم بها أبناء بلدي ومطالبهم”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، لتلامس رسومها هموم الناس وظروفهم، كتلك اللوحة التي أسمتها “عين الثورة”، وشاركت بها في المعرض الجماعي الدولي “الفن بلا حدود من أجل السلام والدفاع عن حقوق الإنسان”، الذي أقيم في إيطاليا عام 2022، لتحصد بها جائزة السلام االدولية.
“مصدر إلهامي قضايا الوطن، الحرب، قصص المعتقلين، المشاعر العاطفية سواء إيجابية أو سلبية، والجمال، حتى العناصر الجامدة التي تخلق لي شعوراً أو إحساساً جديداً قد تكون مصدر إلهامي”، بحسب دياب، التي يتوزع فنّها بين الرسم والتشكيل والأشغال اليدوية، واكتسبت شهرتها من لوحة “عين الثورة”، وهي عبارة عن لوحة زيت على ققماش.
رغم الظروف الأمنية والاقتصادية التي يعيشها أكثر من ستة ملايين نسمة في مناطق المعارضة، شمال غرب سوريا، بينهم نحو مليوني نسمة في مخيمات النزوح، تحاول الفنانات، اللاتي يعانين أيضاً من ظروف مجتمعية، الاستمرار في طريق الفن، كما هو حال دياب وأمثالها.
أماني العلي، 38 عاماً، المقيمة في مدينة إدلب، دخلت مجال الفن، عام 2016، عبر تقديم لوحات كاريكاتيرية اجتماعية وسياسية، وهي أول رسامة كاريكاتير في منطقة إدلب، نشرت أعمالها الفنية في عدد من المواقع المحلية والعربية والدولية، قائلة لـ”سوريا على طول”: “كانت بدايتي في جريدة سوريتنا، وبعدها انتقلت إلى العربي الجديد، ثم الحرية برس، كما عملت مع مواقع أجنبية، وحالياً أعمل مع صحيفة فرنسية إلى جانب تقديم أعمال لصحف عربية”.
في هذا الشهر، حاز فيلم “أماني خلف الخطوط”، الذي يجسد قصة العلي، على جائزة في مهرجان Grand Bivouac الفرنسي، باعتباره أفضل سلسلة وثائقية في مهرجان كان الدولي، وهو من إخراج أليسار الحسن وآلاء عامر.
الفن سلاح فعال
في الأزمات والحروب، تختلف أدوار الفاعلين والفاعلات في المجتمع، وتتنوع أساليب تعبيرهم عن الظروف والأحداث، وهذا ينطبق على الثورة السورية، التي برز فيها الفن باعتباره لغة تواصل عالمية، يمكن عبرها إيصال رسائل إلى الشعوب أو التضامن مع قضاياهم.
“أقبلت على فن الغرافيتي (الجداريات) للتواصل مباشرة مع العالم وجذب الانتباه لقضيتنا من دون حواجز أو قيود”، قالت الرسامة سلام الحامض، 32 عاماً، وهي من مدينة جسر الشغور بريف إدلب الغربي، مشيرة إلى “قدرة الفن الكبيرة على إيصال رسائل قوية للعالم”.
ظهرت موهبة الرسم عند الحامض منذ طفولتها، لكنها شعرت بأهمية الفن خلال سنوات الثورة السورية، حتى أصبحت الريشة “سلاحاً أواجه به، ووسيلة أعبر به عن أي شعور ينتابني”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
إضافة إلى التدريب لمدة شهر كامل، يتم دعم المستفيدات بمواد العمل والمعدات اللازمة لعملية التصنيع، على أن تقدم كل متدربة لوحة منزلية، تحت إشراف كادر رابطة المرأة الريفية، وفقاً للطوف.
اختارت الرابطة هذا النوع من الفن باعتباره يسهم في دعم واستقرار المجتمع، ويؤمن فرص عمل للمرأة بعد تأهيلها عن طريق “التلمذة المهنية”، بحسب لطوف، مشيرة إلى أن هدف المنظمة يتمثل في تحويل الفن إلى مصدر دخل، إذ “يمكن للمتدربة تخصيص زاوية في منزلها وتحويلها لمشغل صغير، والبدء بإنتاج لوحات فسيفسائية وبيع اللوحة الواحدة بسعر يتراوح بين 30 و150 دولار أميركي”.
عبرت أم محمد، 30 عاماً، إحدى المستفيدات من المشروع عن رضاها بتدريب رابطة المرأة السورية، قائلة: “صرت قادرة على العمل وإنتاج لوحات فسيفسائية بجودة فنية عالية”، لكن المشكلة “في إيجاد فرصة عمل أو تصريف الإنتاج”، كما أوضحت لـ”سوريا على طول”، واتفقت معها بيسان فاعور، 34 عاماً، المستفيدة من نفس المشروع.
تعليقاً على دور منظمات المجتمع المدني في دعم الفن، قالت يافا دياب: “يقع على عاتق المنظمات دور كبير في دعم الفنان بمسيرته الفنية، ولكنها لم تقدم هذا الدعم”، مشددة على ضرورة “زيارة كل فنان لمعرفة واقعه المعيشي، ومن ثم تأمين بيئة تناسبه نفسياً وجسدياً، ودعمه مادياً سواء بتأمين المواد التي تساعده في الإنتاج”.
ثورة نسوية
من التحديات التي تواجه النساء العاملات في مجال الفن بمحافظة إدلب “النظرة العامة للفنون بمختلف أشكالها على أنها للتسلية وملء الفراغ”، وينعكس ذلك على “عدم وجود توجه لتوظيف الفن في خدمة المجتمع ودعمه”، بحسب لطوف.
من جهتها، قالت الكاتبة والباحثة النسوية، علياء أحمد، في حديثها لـ”سوريا على طول”: “تواجه فنانات إدلب تحديات كثيرة، بدءاً من الحصار المفروض على المدينة والموت المحيط من كل جانب، ولا ينتهي ذلك بمحاربة الصور النمطية التي ترفض خروجهن عن المألوف، وتستهين بقدراتهن ولا توفر لهنّ الدعم الكافي”.
لكن، رغم كل العقبات، برز دور الفنانات في إدلب، وهو “أبعد من أن يكون عملاً ذو قيمة فنية وإبداعية، وإنما شكل من أشكال الثورة النسوية، حتى إن لم يطلقن على أنفسهن ذلك”، بحسب أحمد، قائلة: “أعتقد أنهن يستطعن أن يحملن رسائل سلام إلى العالم تعكس جمال إدلب وغناها وتنوعها، وجمال سوريا رغم كل العنف الذي نغرق فيه، لكنهن بحاجة لدعم حقيقي ومنظم بالفعل”.
وأضافت أحمد: “تقدم النساء من خلال فنهنّ آليات إبداعية جديدة يطرحن فيها قضايا ذات بعد إنساني عميق، ومن منظور نسوي فطري، يعكس حب الذات الأنثوية”، معتبرة أن إعلاء صوتهنّ عبر الفن ومواجهتنّ للعنف “هو أرق الطرق وأقواها في نفس الوقت. هذه الإضافات الغنية تعكس شجاعة كبيرة وتستحق من الجميع مزيداً من الدعم”.
تتمنى يافا دياب أن يتم “إنشاء مكتب أو مرسم جماعي يكون مظلة للفنانات، لما له دور في زيادة نشاطهنّ، وتحقيق التنسيق الإيجابي بينهم”، إضافة إلى “إنشاء معارض لأعمالهنّ وتسويق نتاجهنّ الفني”، بحسب دياب، التي ما زالت تنفق من جيبها على فنها، قائلة: “الفن لا يؤمن استقراراً اقتصادياً لي حتى الآن”.