العدد الثامن .. الاول من شهر أيار من عام ٢٠٢٣…الروائيّة زهراء عبد الله : الكلمة تحوّل العجز إلى قوّة

الكتابة الإبداعيّة في مواجهة العنف هي نضال فكري، مقاومة لا تنتهي بصفحات أو بكتب، أو بمحاولات.. إنّها عمليّة مستمرّة، نكتب، نُحَارِب، نكتب، نُحارَب. نكتب لأنّ الكلمة البنّاءة تنافس آلة الحرب الهدّامة للمادّة والروح، على حدِّ سواء. نكتب لأنّ الكلمة البنّاءة تقطع رؤوس الجهل المتفشّي في الوعي الجماعي.

نكتب لنشارك بفك حبال النظام الأبوي الديني القانوني، المُلتفة حولَ أعناق النساء، ليتحَرّرنّ. قد لا تصل الكلمة إلا بعد حين، وربّما بعد زمن طويل، لكنّها ستصل، لأنّ مفعولها رجعيّ، فمن الحرف بدأت الحضارة الإنسانيّة.يقول الجنرال الهولندي اللواء باتريك كاميرت: “أن تكون امرأة الآن أخطر من أن تكون جنديًّا في نزاع مسلّح في العصر الحديث”. ونساؤنا، مع الأسف، اختبَرنَ العنف بشكلٍ جيد جيدًا؛ عنف ما قبل الحرب، وعنف الحرب، وعنف ما بعد الحرب. يقولون عنهنّ “ضحايا”، لكنهنّ في الحقيقة مقاتلات. ما قبل الحرب، قامت العادات والتقاليد والأعراف، وأيضًا السلطة السياسيّة باختراق كيان المرأة بصورة منهجية، وبغطاء ديني يُناسب مصلحة المجتمع العليا التي توافق على أسسها الجميع، إلّا المرأة.

ولكن هل نكون فعلًا قطعنا شوطًا كبيرًا في أرض الحضارة، كما يدّعون، إذا تمّ التوقّف عن وأد المولودات أحياء؟نساؤنا مقاتلات، نعم، لكنهنّ يمُتنّ آلاف الميتات كلّ يوم، كلّ لحظة، دفاعًا عن حقوقهنّ الطبيعيّة: حقّ الحياة، حقّ التعليم، حقّ دخول مجالات العمل المختلفة، حقّ الحضانة، حقّ الحماية من العنف الأسري، حقّ إعطاء الجنسيّة لأولادها، حقّ الميراث العادل، حقّ الحرّيّة… وقد يكون أهمّ هذه الحقوق على الإطلاق هو حقّها بـ “الموت الطبيعي”، دون تدخّلات بشريّة ذكوريّة من الأب والأخ والزوج والعم والخال، بحماية قانون تافه يصنف حادثة موتها تحت مُسمّى “جريمة شرف”.

وأتت الحرب، ولم تأتِ بالدمار والخراب والموت فقط، بل بتسريع وتكثيف تكاثر أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، عمّا كان عليه من قبل، لتجد المرأة السوريّة نفسها بوجه العنف والحرب معًا، فتتحَوّلُ درعًا لتنقذ وجودها، عائلتها، بيتها، كرامتها وشرفها. جاء وقع العنف على النساء السوريّات مختلفًا، كلّ واحدة تلقّته وفقًا لظروفها الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك العنف شملهن جميعًا، ولو بنسب متفاوتة وأشكال متنوّعة. الاستغلال الجسدي والنفسي والجنسي عنفٌ مُبرّر من بعض أصحاب اللحى اللذين أعادوا تفصيل ثوب الدين على هواهم، تلبيةً لنداء غريزتهم الفالتة دون مكابح.. الاعتقال والتعذيب لمن رفعت صوتها عنفٌ مُتبنى من النظام السياسي القائم أساسًا على التخويف، والشعور بالخوف عنفٌ لا يمكّن حامله من العيش.. الفقر والجوع عنفٌ مدعوم من منظومة اجتماعيّة انقلبت أركانها في زمن الحرب إلى عصابات تحتكر حتّى الرغيف.. الهروب والتشرّد وصولًا إلى خيمةٍ أكثر أمانًا من أرض الوطن، أو إلى أرض بعيدة غريبة، عنفٌ يقتلع الانتماء من الجذور.. العنفُ بكلّ أصابعه يدٌ ثقيلة لا ترحم، ولا تتوقّف عن الصفع! كيف يمكن لهذه اليد أن تتوقّف عن الصفع؟ وهل يمكن للكلمة أن تشلّ حركتها؟!أؤمن بأنّ العقول المتمرّدة لن تستسلم عن بثِّ الأفكار التي من شأنها رفع الصوت، والإشارة إلى العنف المُمارس على أنواعه وأشكاله ومستوياته تجاه المرأة السوريّة، ومن ثمّ محاولة تأمين حلول كالبيئة الحاضنة للضحيّة، والتي تجسّد الخطوة الأولى والأهمّ في عمليّة التخلّص من ندوب العنف، على الصعيدين الجسدي والنفسي، وصولًا إلى تغيير القوانين التي تلبس عباءة الشرع الفضاضة، حيث إنّ كلّ إنسان يفسّر ويجتهد على هواه.

في خضمّ هذه العمليّة الطويلة والمعقّدة، التي تستمرّ عقودًا لتصل إلى التغيير الجذري في البيئة الاجتماعيّة والقانونيّة، تأخذ الكتابة الإبداعيّة التي تحاكي وضع النساء، بشكلٍ عامّ، خطًا موازيًّا مع خطوط هذه العمليّة.

في ما يخصّ تجربتي الشخصيّة في الكتابة عن النساء المعنّفات، فقد تلبّسني العجز في رواية «على مائدة داعش»، ولم أتردّد لحظة في تدوين هذه السطور في بداية الرواية: “إلى النساء المختطفات لدى داعش، لأنّي عاجزة عن فعل أيّ شيء، لكن كتبتُ هذه الرواية”.

أيقنت أنّني لن أستطيع مساعدة النساء اللاتي وقعن “سبايا” بيد التنظيم الإرهابي، إلّا إذا كتبت عنهنّ، ونقلت ما حدث لهنّ من خطف واغتصاب وعنف وقتل، ونجاة أحيانًا.. قد لا أكون ساهمت في تحرير أيّ فتاة من قبضة الإرهاب، لكنّي أوصلت أصواتهنّ بالطريقة التي أعرفها، الكلمة.

بفضل الكلمة، تحوّل هذا العجز إلى قوّة في كلّ مرّة كانت تصل فيها الرواية إلى يد قارئ جديد. في رواية «من التراب إلى الماء»، الدافع كان التمسّك بالحلم والدفاع عنه. الحلم الذي تخطّفه الحرب من الإنسان، فيقضي حياته هائمًا يبحث عنه.

كتبتُ عن الفتيات اللاتي أجبرتهنّ الحرب على الاحتراق بنارها، ترك مدارسهنّ، ترك أحلامهنّ، ثمّ تهجيرهنّ إلى مخيّمات وتزويجهنّ قاصرات. لكنهنّ حاولنّ التخلّص من قسوة التراب الذي لازمهنّ منذ الولادة، عبر الماء. هذا ما حدث مع آلاف النساء السوريّات اللواتي تركنّ خلفهنّ حياةً مشوّهة في الوطن، ليُجابهن الموت في البحر، وكلهنّ أملٌ بحياةٍ جديدة بأرض تحمي كراماتهنّ وحقوقهنّ وحياتهنّ. لطالما كانت المرأة هي الآلهة في أعظم حضارات التاريخ، ماذا جرى حتّى سقطت في خندق العبوديّة، وحلّ مكانها الإله الذكر؟!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »