تزويج القاصرات في سوريا… كيف لرجل أن تغويه طفلة؟
لم يكن لقاء لمياء (اسم مستعار) بالأمر السهل، الفتاة ذات السبعة وعشرين عاماً، تزوجت حين كانت في سن الرابعة عشرة، أجبرها أهلها على الزواج من ابن عمها الذي يعمل مياوماً في سوق الهال، الطفلة آنذاك لم يكن لها دور في القرار أو التخطيط، هي فقط نفذت ما أراده أهلها مكرهةً.
فجأة رمت لمياء بألعابها وطفولتها خلف ظهرها، غادرت مدرستها مجبرةً، لم يتسن لها توديع رفيقاتها حتى، رفيقاتها عينهنّ اللاتي أكملن دراستهنّ، وبعضهنّ التحقن بالجامعة، وأخريات تزوجن لاحقاً، إلّا أنّ الأكيد أنّ أياً منهنّ لم تدفع طفولتها ثمناً على نذر زواج الأقارب بالإكراه، وعلى مذبح صلب الطفولة في أحضان رجل بالغ.
التقينا لمياء بطريقة محاطة بالسرية، عبر صديقتها وجارتها في آن. اللقاء كان سريعاً وخاطفاً، وبالكاد أتيح فيه بعض الوقت على قلته لطرح بعض الأسئلة التي بدت قليلة على كثرتها. فالمرأة المتوترة خائفة من زوجها، وأهلها، ومجتمعها، وهو خوف اتضح أنّه يتنامى مع الوقت ولا يقل.
“كنت طفلةً، بالكاد كنت قد بلغت قبلها بقليل، كنت أنام مع ألعابي الصغيرة، وأصحو لأمشط شعر لعبتي السمراء، كذا كانت حياتي، أنا الفتاة التي كنت أنتظر برامج الأطفال عصر كل يوم على القناة الأرضية الثانية، كنت أكثر من طفلة، لم أعتقد يوماً أن ينتزعني أهلي من حياتي ليرموني خارج منزلهم تحت عرف الزواج المبكر درءاً للفتن والمشكلات و(العار)”، تقول لمياء، وتكمل: “لم أصدق أنني سأتزوج الرجل الذي كنت أجلس في حضنه ويلاعبني قبل سنوات، لم أكن مدركة معنى الزواج، فجأة وجدت نفسي في منزل غريب أقف أمام رجل بدا غريباً وعليّ حينها أن أكون له، أكون له بكل ما تعنيه الكلمة، وبكل ما لا يمكن لطفلةٍ صغيرةٍ فهمه”.
يكبرها زوجها بعشرين عاماً على الأقل، فرق العمر كان كفيلاً بجعل المطبخ بديلاً من غرفة ألعابها، وبجعلها امرأة مرةً واحدة، امرأة صارت “ماكينة” للإنجاب، الطفلة التي صار لديها خمسة أطفال بعد ثلاثة عشر عاماً من زواجٍ لا يزال مستمراً.
الأطفال الضحايا
لا يعتبر أمر زواج القاصرات حدثاً مستجداً في سوريا عامةً، إلا أنّه تنامى وازداد باطراد لافت للانتباه خلال سني الحرب، الحرب المستمرة منذ عشرةِ أعوامٍ، دفعت النساء ثمنه، بصورة خاصة ومباشرة، وغالباً ما كان يرتبط الأمر بالعرف المجتمعي في المجتمعات المنغلقة على نفسها والمتحجرة والمأخوذة بعباءة العادات والتقاليد والأعراف.
ترجع بعض الآراء أمر زواج القاصرات لتردي الأوضاع المعيشية والحياتية أحياناً، إلى جانب الملف العذري الذي يحكم الأمر في نطاق معين، ويرجع إلى مخاوف الأهل حول عذرية ابنتهم، فيدفعون بها للزواج في سن مبكرة، وعموماً في الشريحة الأوسع يكون هذا الزواج للأقارب، وزواج القاصرات هو أي زواج لم تتم به الفتاة عامها الثامن عشر، ويشترك كله في عدم قدرة الفتاة على اتخاذ قرار كهذا، فتدفع إليه بالإكراه غالباً.قد يكون من المستحيل المجيء برقم دقيق عن ضحايا الحرب في سوريا، وعن الظواهر والمظاهر التي أفرزتها هذه الحرب، إلّا أنها ومما لا شك فيه قد نمت هذه الظاهرة وجعلتها أكثر شيوعاً وانتشاراً، وأيضاً من دون أرقام رسمية.
البحث عن السترة
“الله يستر عليها” هي عبارة تسمعها كثيراً في المجتمع السوري، بشقيه المنغلق والمحافظ، وبالطبع فإنّ الفرق بين هذين المجتمعين في سوريا كبير، وإن بدوا متشابهين في المعنى اصطلاحياً، إلا أنّ المجتمع المحافظ بدأ ينحو نسبياً نحو استمرار التعليم والانخراط في الحياة العامة على صعد مختلفة، ولو كان بتحفظات تكبر أو تصغر بحسب العائلة عينها، أما المجتمعات المغلقة فتبحث عن السترة الفورية لكل بنت تجاوزت عامها العاشر.
لا بد من الإشارة الى أن سواداً أكبر على مستوى مدن الداخل السوري تحرر من إطار الانغلاق الاجتماعي، وبدأ يتخذ سبيله نحو تفكير أكثر تحرراً تكون فيه الإناث عماد العلم والحركة التطورية والمجتمعية، وأيضاً مع تحفظات على سلوكيات الفتاة التي تظل تحت عين المراقبة وأحياناً المضايقة الاجتماعية، ليخلص الحال إلى الجملة المعهودة والمقرونة باستسلام الأنثى أمام سطوة الرجل الشرقي: “ايمت بدك تتستتي؟”، أو بصورة أكثر احتراماً: “أيمتى بدنا نشوفك عروس”، أو بصورة تعزز دورها كآلة إنجابية: “ايمت بدنا نشوف أولادك؟”، وتشترك كل الجمل “بكليشيه” رسمية، “رح تعنسي شو ناطرة.. الله يبعتلك ابن الحلال”.
تسخر سلام قاسم، المتخصصة في علم الاجتماع، من هذه الآراء، وترفضها جملة وتفصيلاً، في حالات المجتمع المختلفة. “تخيل أني بعدما كوّنت نفسي وصرت رقماً لا يستهان به في المجتمع ألّا تقاس دراستي وكياني ويتم تقزيمي لدرجة أنني لا شيء إن لم أتزوج”، تقول قاسم لـ”النهار العربي”، وتستطرد: “ما معنى العنوسة؟ وهل الرجل يصبح عانساً؟ نحن تعلمنا وتفوقنا ونطمح لتحقيق المساواة، وهي أدنى حقوقنا، أنا لا أريد الزواج لأجل الزواج، ولأجل أن أكون أقرب لجارية أمام رجل يظن نفسه هارونَ (هارون الرشيد)، أو بأفضل الأحوال لأنجب له ذرية، وأصير سيدة منزل همها الوحيد ينصبّ في المطبخ وإرضاء زوجها في السرير”.
وعن زواج القاصرات ترى قاسم أنّ من الصعب التصديق أيّ تخلف تعيشه فئات من المجتمع، “كيف يمكن لأهل طبيعيين تزويج ابنتهم وهي بسن الطفولة، أي ما قبل المراهقة، تخيلوا ذلك! هذه أصبحت تجارة عبيد الهدف منها جنسي، كيفما قسناه فهو جنسي، كيف ستتمكن طفلة صغيرة من تلقف رجل يبدو كوحش فوقها، هل ستدرك ما معنى أن يأخذها في أحضانه، ربما هي تعتقد أنّه يلاعبها، وسيأخذها الى الملاهي، ولا تعتقد أنّها للتو ستصبح فريسة كائن لا أدري كيف يقبل على نفسه ممارسة الجنس مع طفلة في حالة تبدو أقرب للاغتصاب، كيف سيتمكن؟ هل يمكن أن تغويه طفلة؟”، تختم حديثها معنا بهذا الاستفهام الذي يبدو منطقياً إذا ما قسنا دوافع الرجل للزواج بمعزل عن دوافع أهل القاصر لتزويجها، فهل حقاً تغويه طفلة لم يكتمل نموّها؟!
قوائم المنع
نقلت صحيفة محلية في عامٍ سابق أن آباء عديدين سجلوا أسماء بناتهنّ في المحاكم لمنع تزويجهنّ من دون علمهم، “النهار العربي” تقصى حول الموضوع، ووصل إلى أنّ هذه القوائم ليست بجديدة، بل هي موجودة سابقاً على شكل حالات فردية قليلة، إلا أنّ الأمر أصبح مع الوقت عرفاً لا قانوناً بنص صريح.
القوائم هذه تتيح للأب تسجيل اسم ابنته في “قائمة منع الزواج” إذا لم تحظ بموافقة ولي أمرها (والدها)، أو جدها أو عمها، أو الوصي عليها، في حال غياب الأب.
على أن يصطحب الولي معه أوراقاً ثبوتية، تكون عبارةً عن دفتر العائلة والبطاقة الشخصية، فيتم تسجيل اسم الفتاة في “قوائم منع الزواج”.يمكن للأب إبطال الأمر بطلب شطب اسم ابنته من القائمة، أو فيما إذا ارتأى القاضي أن سبب المنع الذي ساقه الأب غير منطقي أو مقنع، وبالتالي يكون القاضي الناظر في القضية هو وليها، ويحق له تزويجها. وبالنسبة الى الذكور فليس هناك – حتى الآن – أي عرف أو قانون لا يتيح لهم الزواج.