العدد الثاني عشر …. النصف الثاني من شهر تموز يوليو من عام ٢٠٢٣ ….مدخل إلى النسوية في الفن السوري المعاصر: الذات والجسد عبر أمثلة.
تحاول هذا الورقة تقديم صورة عن الحضور النسوي في الفن التشكيلي السوري المعاصر، وهو جزء من اهتمامنا بالفن السوري المعاصر وواحدة من أهم قضاياه الراهنة. تفرّق بدايةَ بين عدة أدوار تتمثل في: حضور النساء كفنانات، كراعيات ودارسات للفن، كملهمات للإنتاج الفني (كموديل)، وأخيراً كموضوع وقضية في العمل الفني والذي لا ينحصر بدور النساء فلدينا أمثلة عديدة من أعمال فنانين سورين رجال عزّزوا حضور المرأة عبر فنّهم. نودّ هنا بشكل رئيسي استكشاف الاهتمامات النسوية للفنانات السوريات، عبر أمثلة ممن قمن بطرح قضايا متعلقة بالكيان المؤنث، والقضايا النسوية سواء فيما يتعلق بالحالات الذاتية أو ما يتعلق بالقضايا العامة، أو حتى ما يرتبط بالحريات والحقوق. ولابد من الإشارة منذ البداية إلى أن وجود فنانات سوريات منخرطات بالعمل الإبداعي ومتفرغات له لا يعني بالضرورة أنهنّ ناشطات نسويات أو متبنياتٍ لخطاب إيدلوجي محدد. وسبب عدم التطرق للشرائح المتبقية (النساء كراعيات للفن أو منظّرات أو ملهمات) هو تشعبها وارتباطهما بالعوامل الاجتماعية والدينية والسياسية، مما يجعل اختصارها هنا عسيراً.في الواقع، نفترض أنه من المبكر تحديد خطاب نسوي مكتمل الملامح في الفن السوري، أي متعلق بجميع المبادئ من الاعتراف بحريّة المرأة وامتلاكها الحق الكامل بتقرير مهنتها وخياراتها الشخصية وبلوغ المساواة مع الرجال فيما يتعلق بقيمة عملها الإبداعي والفرص المتاحة، حيث إن التاريخ شهد تهميشاً كبيراً للنساء في الحقول الإبداعية. ونستفسر عن إمكانية تشكيل جزئية من هذا الخطاب عبر اللغة البصرية والمنتج الفني بالإضافة مواقف الفنانات أو عبر السرديات النقدية. سنحاول تبيان كيف تتمثل النسوية feminism في الفن السوري واستقراء تبدّلات الهموم عبر الأجيال، لهذا الغرض نستند إلى نماذج من أعمال ونشاط لفنانات سوريّات هنّ: ليلى نصير، ليلى مريود، بثينة علي، بيسان الشريف، نغم حذيفة.الصعوبات لدى دراسة نشاط التشكيليات السورياتقبل الشروع بتفحص وتحليل النسويّة في الفن التشكيلي السوري المعاصر، يبدو لنا من الضروري ذكر بعض المعوقات التي تجعل من الصعب سبر كل أعماق هذه الحالة والإحاطة بحقائقها على نحو وثيق، وهي صعوبات تتمثل في النقاط التالية:صعوبات تقنية: لدى الخوض في استكشاف دور ومكانة المرأة السورية في الحقول الفكرية نصطدم أولاً بقلة التوثيق الممنهج أو وحداثة الاهتمام بهذا الدور. ولمجال الفنون التشكيلية المعاصرة في سوريا خصوصية عدم وضوحه على مدار عقود. فالفنون التشكيلية تعتبر حديثة الثبات كممارسة فعلية للفنانين والمشتغلين في الفن في سوريا. أي أن ممارسة هذه الفنون ودعمها وعرضها وتسويقها يتضمّن بحكم حداثتها تحديات أمام الرجال والنساء على حد سواء. وفي ظل سياق تاريخي متشابك مع قضايا اجتماعية ودينية وقومية حالت دون تطوير هذه الفنون، وأبقتها على مدار سنوات بسيطة ومُقلِّدة للتيارات الغربية، لا بد من الاعتراف بأن هذه العوامل لعبت دوراً في تقييد قدرة النساء على الاستمرار في العمل الفني. بالإضافة إلى حقيقة أن أول صالة عرض للفن الحديث والمعاصر تم تأسيسها عام ١٩٦١ على يد محمد ومحمود دعدوش، وأن كلية الفنون الجميلة في دمشق تأسست في عام ١٩٦٠. تواجهنا أيضاً حقيقة تشتت الفنانين السوريين في السنوات العشر الأخيرة، مما يجعل من الصعب الإحاطة والإلمام بكل ما يُنتج. وأننا على أرض الواقع لا نمتلك في سوريا مجموعة متحفية شاملة تؤسس لفهرسة وتوثيق النتاج التشكيلي الحديث والمعاصر، تكون مرجعية للأبحاث، دون أن نبخس المجموعات الخاصة أهميتها مثل مجموعة أتاسي ومجموعة سماوي ومجموعة مؤسسة كلمات. وصحيح أنه بسبب هذا الشتات قد نشأت مجموعات افتراضية وحسابات على وسائل التواصل متخصصة بعرض الفن السوري سيريا آرت الذي يقدم عمل ما يزيد عن خمسمئة اسم من المشتغلين في الفن، وموقع ذاكرة إبداعية سورية ، لكن الاثنان لا يتبعان منهجية نقدية تمييز بين الفن كمهنة، والفن كنتاج إبداعي وفكري.هنالك أيضاً صعوبات معرفية تتعلق بتكوين الخطاب النسوي في الفن السوري. حيث أن الدراسات العربية التي تتناول هذا الجانب وتتخصص فيه ما زالت قليلة. وبالرغم من أننا نشهد في السنوات الأخيرة اهتماما متزايداً بالنسوية كقضية حقوقية وثقافية في السياق السوري، مثلاً من قبل موقع اللوبي النسوي السوري syrian feminist lobbyوالحركة السياسية النسوية السورية The syrian women’s political movement أو شبكة الصفحيات السوريات Syrian female Journalists Network أو حتى العدد الذي خصصته مجلّة قلمون Kalamon المحكّمة عن النسوية السورية ، إلّا أن التطرق إلى الفنون التشكيلية نادراً. وعلى جانب آخر، يصعب علينا الاطلاع على الفكر النسوي في الجانب الشرقي من العالم، بسبب اللغة وبسبب السياسات المتحفظة في العديد من البلدان الشرقية غير العربية، علماً أن الأمثلة من مجتمعات آسيا والشرق بالعموم قد تكون مفيدة كنماذج.أخيراً لدينا صعوبات مرتبطة بالظاهرة ذاتها وخصوصيتها، مثل نقص العنصر المؤنث في مجالات فنية دون غيرها، فعدد النحاتات السوريات منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم ما زال بسيطاً جداً بالمقارنة مع الرسامات والحفارات والمصممات لأعمال التركيب وذلك لأسباب سنشير إليها. كما أنّ من أبرز الصعوبات التي تواجه تحليل دور النساء السوريات في الفن وسبر حقائق هذا الدور، هو اعتبار أعمال الحرف اليدوية كالخياطة والتطريز والنسج كفعل فني، فبالرغم من أن الاستقاء والاستلهام من هذه الحرف وتأثيرها الإيجابي على الذائقة، لا يعني بالضرورة قدرة الحرفة على خلق عمل فني بمعنى الجدة والأصالة. ولربما أن هذا الاعتبار مرتبط بظاهرة أكبر تنفي وجود خفوت في الحركة الفنية في المنطقة بسبب العوامل الدينية والانشغال بقضايا التحرر الوطنية في ظل فترة الحكم العثماني. ونستثني بالطبع الرسوم القيّمة في المخطوطات والمنمنمات وفن الأيقونة.
البدايات – التأسيس في سوريا:
بنظرة أولى إلى تاريخ الفن السوري وأرشيفه، أرشيف لم تكرس له الأعمال البحثية إلّا مؤخراً، بإمكاننا ملاحظة خفوت الصوت النسوي منذ البدايات سواء كفنانات أم راعيات للفن. في كتاب أصدرته مؤسسة أتاسي عام ٢٠١٩م مرفقاً لمعرض ثورات شخصية الذي تم تخصيصه لعرض تجارب فنانات سوريات، وضعت الباحثة والمؤرخة الفنية نغم حذيفة نظرة متمعّنة على مفاصل تاريخية فنيّة كان لها أثر على حضور النساء ومكانتهن في المشهد الفني. ومما كتبت فيه : «لإعطاء نظرة علمية وموضوعية عن علاقة النساء بالفن في سورية الحالية التي كانت جزءاً من بلاد الشام لا بد من الرجوع إلى الأرشيف، ثم رصد الحركة الفنية خصوصاً في حلب التي عرفت التصوير الكنسي منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر وشهدت حضور فني ملفت للأرمن، فلقد عرفت مدينة حلب العديد من المصورات من أمثال هيلدا قسيس أجميان ومارال هايرا بيديان وأناهيد شاهينيان اللاتي ساهمن في الحركة الفنية منذ عشرينات القرن الماضي.» وفي مقال بعنوان «النشاط الثقافي في العالم العربي ، سوريا تطور الحركة الفنية» المنشور في مجلة الآداب العدد الاول الصادر عام ١٩٥٣ يشير مراسل المجلة في دمشق إلى المعرض السنوي الذي كانت تقيمه وزارة المعارف في حينها في المتحف الوطني بدمشق لدعم الفنانين الذي حدث أول مرة عام ١٩٥٠ إلى أن « هذه المعارض في سورية جاءت متأخرة بعض الشيء، بل إن الحياة الفنية نفسها لم يكن لها إلى عهد قريب كبير مجال» ثم يلفت النظر إلى الحضور الخجول للنساء فيكتب : «ومن الظواهر التي تلفت المشاهد أن يشارك بعض سيداتنا في هذا النشاط فتعرض السيدة موره لي (منيرة) من دمشق خمس لوحات جميلة» وفي كتاب «منعطف الستينات في تاريخ الفنون الجميلة في سوريا» يكتب الدكتور عبد العزيز علون «ظهر جهد المرأة في ميدان الفنون التشكيلية في سورية العربية في الأربعينات ولاحظنا أن معرض التجهيز الأول بدمشق الذي أقيم في ١٥ آب عام ١٩٤٧ ضم أعمالا لكاترين مسرة ورمزية زنبركي ومطيعة شورى اللواتي عرضن أعمالا زيتية. واعتبر ظهور فن المرأة في ذاك التاريخ حدثاً اجتماعياً هاماً، تعاقبت بعده أعمال كبيرة للمصورات والنحاتات في معارض الخمسينات والستينات حتى لم يعد يخطر على بال المرء أن يميز بين فن الجنسين، وأصبحنا نعد بعض الشابات المصورات في أواخر الستينات مع ألمع منتجي التصوير. » يتطرق علون أيضاً إلى حدث اختيار ملهمة (موديل) للفنانين في عام ١٩٦١، بواسطة لجنة تألفت من ستة أشخاص بينهم سيدة واحدة فقط هي الفنانة درية الفاخوري حماد فنانة، يقول علون : « إن ظاهرة الملهمة في تاريخ الحركة الفنية فيما بين ١٩٦١ و ١٩٦٢ كانت حدثا غير عادي ذا دلالات عظيمة، ولم تكن مسبوقة من قبل كما أنها لم تتكرر على الرغم من جدواها ومنافعها للفنانين والجمهور.
يوثّق عبد العزيز علون عبر صور ووثائق أخرى من كتابات دفاتر المعارض الفنية ومذكراته النقدية في كتابه المذكور حضوراً نسويّاً في حقل الفنون، سواء كجمهور أو كفاعلات في الدعم والرعاية أو الممارسة الفنية. فيذكر الحضور القيّم لفنانات مثل منور موره لي من مواليد (١٩١٢م) درية فاخوري حمّاد (١٩٣٠م) وهالة مهايني (١٩٤٧م) وشلبية إبراهيم (١٩٤٤م) ولجينة الأصيل (١٩٤٦م). ومن بين أربعين إسماً يوثقها بشكل متفرد مع نظرة على تجربتها يرد ذكر خمس فنانات فقط هنّ: ليلى نصير (١٩٤١م) وإقبال قارصلي (١٩٢٥م) وأسماء فيومي (١٩٤٣م) وليلى أورفلي وفيوليت عبجي (تعذّر علينا الحصول على تواريخ ميلادهما و وفاتهما) ، وذلك بسبب قلة عدد الفنانات بالمقارنة مع الفنانين في تلك الفترة بين ستينات وسبعينيات القرن الماضي، حيث كانت القيود الاجتماعية خصوصاً تقف في وجههنّ.
في مقابلة أجراها الكاتب منذر المصري مع الفنانة ليلى نصير التي تخرجت من كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام ١٩٦٣م بعنوان «ليلى نصير هدف صعب للموت» منشورة عام ٢٠١٨ في العدد الرابع من جورنال أتاسي، يسألها المحاور فيما إذا كان في نشأتها ما له علاقة بالرسم، فتجيب بأن لوالدتها وديعة رباحية الأثر الأكبر بفضل اهتمامها بالفن والأدب بينما لم يكن لوالدها هذا التوجّه، وهي بهذا التأكيد تقوم بإعلاء دور الأم في نشأتها الفنية. في المقابلة ذاتها وعن موقفها المتمرد ضد القيود الاجتماعية تقول ليلى «كنت أرفض قول، فنان وفنانة، ألغيت ذلك، وكنت أول امرأة في سوريا التي ارتدت البنطلون وجلست في مقهى الروضة في دمشق (…) عشت جريئة وبلا أي حذر.. خارجة عن المألوف في الوطن العربي كله. كان همي أن أفتح أبواباً للآخرين.» في الحقيقة إن هذا التأكيد على المظهر ليس ثانوياً، فإذا كانت الفنانة تعتبره باباً يفتح للآخرين فهي تعني تمهيد الطريق لحرية اللباس والمظهر في المجتمع وضد قيوده. ففي كتاب الفن النسوي الذي ساهمت فيه عدة كاتبات تحت إشراف الباحثة هيلينا ريكيت نقرأ : « إن الحضور المتزايد وضوحاً للنساء في عالم الفن خلال القرن التاسع عشر من قد تم تعزيزه بفضل كيفية ترويجهن لصورتهن .» لكن موقف ليلى نصير لا ينحصر في الممارسات اليومية والحديث عن الأم فهي تدرك دورها الريادي على الصعيد الإبداعي من بين آخرين من هذا الجيل الذين أسسوا لتكريس الفن في سوريا : «كان هناك قبلنا رسامون درس أغلبهم في إيطاليا… كانوا روداً.. ولكن نعم الذين درسوا في مصر عملوا النهضة. » وصحيح أن ليلى قد نهلت رسومها من الأساطير واهتمت بالقضايا الوطنية ورسمت الفدائيين، لكنها رسمت أيضاً النساء الحوامل والأطفال. تظهر لديها قضيّة الأمومة، هي التي لم تنجب، قضيةً إنسانية متعلقة بتعاطفها الشديد مع الأطفال جميعاً خصوصاً في ظل ما شهدته بعينها بشكل يومي من مشاهد مؤثرة لأطفال مشردين ولاحقاً ممن أنهكتهم الحرب، فأخذت تحتضنهم في مرسمها وأصبحوا موديلات حيّة لها. وليلى نصير مازالت تقاوم وتحاول العمل في مرسمها في سوريا رغم تقدمها في السن فالفن ملاذها الآمن.
ابتداءً من الثمانينات تزايد عدد الفنانات في المشهد التشكيلي السوري المعاصر وانتقلت العديد من الفنانات إلى الخارج مع غيرهم من الفنانين، تبع ذلك قرار استقرارهم في بلدان هجرتهم، مثلاً هالة الفيصل إلى موسكو ورفيف رفاعي وليلى مريود إلى باريس. في الواقع، خلال أعوام الثمانينات خيّم القلق والخوف على الأوساط الثقافية في سوريا، خصوصاً بعد مجزرة حماه عام ١٩٨٢، والتي أطبق فيها الجيش السوري بقيادة رفعت الأسد آنذاك حصاراً على مدينة حماه، بحجة المد الإسلامي المتطرف فيها، غير أن آلاف من المواطنين المدنيين غير الإسلاميين قد قتلوا في حينها، وهنالك اليوم شهادات عديدة توثق عنف ذلك الحدث وعبثتيه مثل شهادة الفنان خالد الخاني الذي تم ذبح والده طبيب العيون حينها. في ظل الخوف ما بين الأحداث الدامية والاعتقالات العشوائية والخشية من ردة دينية، بالإضافة إلى المعوقات الاجتماعية الموجودة أصلاً التي تنطوي على صورة مسبقة تضع الفنانين في موضع الاستهجان، لاذ العديد من المثقفين السوريين ومن ضمنهم الفنانين والفنانات في بلدان المهجر بحثاً عن حرية التعبير. لقد خصصت الباحثة مجد سكيكر بحثها الذي نالت عنه درجة الماجستير من جامعة دمشق عام ٢٠١٣م للبحث في الظروف الاجتماعية وأثرها على أعمال الفنانات وانحسار أو زيادة نشاطهن حسب الفترات التاريخية في بحث بعنوان: «المنعكس الاجتماعي في أعمال التصوير لدى الفنانات التشكيليات السوريات» ، لذا لن نتطرق إلى هذا الجانب هنا. لكننا نود أن نشير إلى نقطة مهمة ذكرتها سكيكر في مقدمة بحثها نقلاً عن تحقيق أجرته نعيمة الإبراهيم عن «الإبداع التشكيلي عند المرأة» كيف أن بعض النقاد مثل عبدالله أبو راشد يعترف بحضور النساء في التشكيل لكنه يستنكر تصنيف «فن نسوي» قائلاً «لا يوجد فن تشكيلي أنثوي «نسوي» بالمعنى الحرفي والأكاديمي للكلمة» وأن هذه التصنيفات هي «تصنيفات كلامية تطلق في إطار المجاز اللغوي حيناً، وفي سياق آليات التعلم المستعار من ثقافة الآخر الأعجمي المتناسلة من تقسيمات الغرب العولمي حيناً آخر» وهذا الرفض يشير إلى صعوبة الدرب الذي تخطوه النساء في سبيل تحقيق صوت نسوي، بل إنه إقصائي لرغبتهن في تعزيز كيانهن الفني عبر الفن.
سمات وقضايا:
إن عبارة «حتى لم يعد يخطر على بال المرء أن يميز بين فن الجنسين» التي يذكرها الدكتور عبد العزيز علون، تشير تماماً إلى عدم وجود خطاب نسوي مُناهض. صحيح أن التعليم الفني في سوريا في كلية الفنون الجميلة التي لم يتم تأسيسها إلا عام ١٩٦٠م، لم يتضمن تميزاً، فمعظم المؤسسين الأوائل كانوا من الفنانين المتنورين، لكن في الوقت ذاته فإن المجتمع معيق جداً لحركة النساء في الفن. فلا يخفى على أحد صعوبة التصوير والتشخيص بسبب سواد الثقافة الدينية والخوف من التماثيل والرسم التشخيصي، وأن هذا الرفض المجتمعي يشكّل عقبة حقيقية في وجه التفرّد الإبداعي. ابتداءً من العام ٢٠٠٠ بدأ نشاط النساء في الفن في سوريا بالتوسع على مستوى العدد والاختصاصات، وكان أحد أهم العوامل المؤثرة هذا التغيير المتعلق بالانفتاح على اختصاصات غير منتشرة قبل ذلك هو إتاحة استخدام الانترنت، الذي حقق إمكانية الاطلاع على تجارب ونظريات الفن المعاصر لدى الفنانين من الجنسين.
ومن هنا بإمكاننا القول بأن توسّع الدور النسوي ليس بقديم أبداً، وبأن مقارنته بالتحركات العالمية في هذا السياق ستوضح الفارق. بإمكاننا أن نتذكر أنه منذ المعرض الدولي Columbian World’s Fair الذي أقيم في شيكاغو عام ١٨٩٣ قد تم تخصيص جناح لعرض أعمال الفنانات عرضت فيه أسماء بارزة مثل ماري فيرشايلد وماري كاسات. وكما هي حاضنة رائدة للعرض، لقد كانت أمريكا معقلاً لبداية تنظير نسوي ممنهج متخصص في الفن منذ أواخر الستينات. وإذا كانت البروفيسورة والناقدة الفنية ليندا نوكلن (١٩٣١-٢٠١٧م) عبر موقفها النقدي ومنهجها الأكاديمي تعتبر من أبرز المؤسسين لفكرة النسوية كقضية في الفن ومدى ارتباط سؤال النوع بمكانة الفنانات، فإنها قد انطلقت من مساءلة النسوية ذاتها. إن الخطاب النسوي الذي جاءت به نوكلن جدير بالتتبع لأنه أعاد النظر بالتحركات النسوية ذاتها وقام بإعادة التفكير فيها، بل إن قوة هذا الخطاب تكمن في مساءلة الصياغات الجاهزة الواردة من تخصصات أخرى، ففي مقالها «لماذا لم يكن هناك فنانات عظيمات» المنشور عام ١٩٧١م ، انتقدت على سبيل المثال كون قوة التصاعد النسوي في أمريكيا والذي جاء تحريرياً « قد جاءت بشكل أساسي عاطفية شخصية ونفسية وذاتية ومتمحورة حول الحاضر وحول احتياجاتها الآنية، بدلاً من التحليل التاريخي للقضايا الفكرية الأساسية التي يثيرها تلقائيًا الهجوم النسوي على الوضع الراهن» يدفعنا هذا للتساؤل، ما هي أبعاد وتمثلات الفكر النسوي في المثال السوري؟ في مقال لكاتي الحايك Katty Alhayek الأستاذة في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون بعنوان «النسوية التقاطعية وكيف يمكن تطبيقها على الوضع السوري» المنشور عام ٢٠١٨ على موقع جدليّة تشير الكاتبة إلى أن : «”النسوية التقاطعية” تؤكد على ضرورة تطوير برامج تستجيب لاحتياجات النساء الواقعية بدلاً من فرض برامج جاهزة فوقية تُعامل النساء ككتلة بشرية متجانسة ذات تجربة واحدة لا تمايزات أو اختلافات بينها وفقاً لتقاطع عوامل مختلفة كالجندر والعرق والطبقة الاجتماعية والدين والأصل الوطني والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي.» في الحقيقة إن هذا التحليل يمكن أن ينطبق على نموذج النسوية في الممارسات التشكيلية المعاصرة في الحالة السورية. إذ ينطوي التفرغ للعمل الفني بالنسبة للفنانات السوريات على مجموعة من صراعات ونضالات جندرية وضد طبقية وتحررية، وضد عنصرية بالنسبة للمتواجدات في المهجر. وربما يكون هذا التحليل منطلقاً أساسياً لفهم معطيات وأبعاد وتجليات الروح النسوية في الفن السوري.
بدايةً تبرز إشكاليات متعلقة بأنواع فنية أكثر من غيرها، فبالنسبة للنحت عدا عن الحاجة للحفاظ على مقدرة جسدية معينة للتعامل مع الخامات والأدوات والأحجام الكبيرة، يصطدم الفنانون بقضية التحريم. يحضر سؤال تحريم الممارسات الفنيّة، فيما يتعلق بالرسم والنحت التشخيصيّان خصوصاً في الفكر العربيّ المعاصر، إذ أنّ هذا التحريم، بالإضافة إلى ظروف الفقر وصعوبة وصول التعليم والتثقيف الفنيّ إلى الجميع، يشكّل قاعدةً للقطيعة بين الفنّان العربيّ (من نساء ورجال) ومجتمعه. نستحضر تفسير المؤرخة الفنيّة سيلفيا نايف البروفيسورة في وحدة الدراسات العربيّة في جامعة جينيف منذ عام ٢٠٠٦، في محاضرة منشورة على يوتيوب بعنوان: الإسلام والصور، علاقة معقّدة . تذكّرنا كيف أن التماثيل قد حُرّمت بوصفها أصناماً، لأنّ الأصنام كانت واحدة من تمثّلات الألوهة قبل الإسلام، كما تؤكّد على أن كلمة تصوير في السياق اللغويّ والقرآنيّ تشمل ما يُرسم وما يُنحت، وتؤيّد، حسبَ تحليلاتٍ لغويّة وثقافيّة تستعرضها، عدمَ وجود دليلٍ واضح للقطيعة مع الصورة. و تتفحّص باباً آخرَ للتحريم متعلّق بفعل الخلق. إن التحريم انطبق فقهياً على الفعل، أي فعل الخلق، بالاستناد إلى التفسير الحرفيّ للنصّ القرآني، ذلك أن الحجّة تقول بأنّ القرآن يتضمّن ذكر الذات الإلهيّة كـ «مصوّر» في عدّة مواضع، وعليه فإن تحريم التجسيد هو تحريم الصناعة حتى لا يتشبّه الصانع بالخالق. لذا جاءَ النهي عن النحت أشدّ منه عن الرسم، وهذه الأفكار حاضرة لدى معظم المجتمع السوري بما يشبه الثوابت حتى لدى غير المتعصبين دينياً.
إضافة إلى هذه الصعوبة فإن العمل الفني بطبيعته ليس عملاً عادياً، بل قد يكون مُرهقاً عندما ينبع من حالات عليا من الصدق والتوحد مع القضايا العامة والخاصة. ففي الحالتين على الفنان أن يصوغ ما في داخله حتى يقدم ما هو جديد، رؤيته حول الحدث هي ما يميز عمله وليس الحدث بحد ذاته. وبصورة عامة بإمكاننا ملاحظة أن الفن المنتج من قبل النساء ينطوي على ملامح مميِّزة، على صعيد الموضوعات المتناولة والصفات التشكيلية والشكلية للعمل. بمعنى أن الفارق الجندري الثقافي وكذلك البيولوجي يؤثر إلى حد بعيد في العملية الإبداعية وصياغة المشاريع والأفكار والموضوعات الفنية. إن اجتماع مشقّات العمل الفني مع الصعوبات الخاصة بحياة المرأة وتركيبتها النفسية والجسدية يزيد من صعوبة المهام الفنية والقدرة على الاستمرارية، لذلك نشهد دوماً وعلى اختلاف المجتمعات والثقافات وجود فنانين أكثر من فنانات. صحيح أن بعض النظريات تربط الأمومة بذاتها بسؤال الهوية الجندرية مثلما نقرأ في كتاب «الفن النسوي» : «الأمومة ليست حقيقة بيولوجية بسيطة مرتبطة بالتناسل، بل هي ما يجعلنا مرتبطين بنوع معين: النوع الأنثوي.» إلّا أن خيار الأمومة يرجّح احتمال تراجع النساء عن العمل في الفن، خصوصاً في أحوال عدم وجود مساندة ومشاركة الأعباء من قبل العائلة أو الأصدقاء المقربين، كما في الحالة السورية في السنوات الأخيرة بسبب تفاقم الشتات، فمعظم الأمهات الشابات من فنانات وغيرهن يخضن هذا الصراع اليومي. بالإضافة إلى ذلك فمن الناحية النفسية، لا شك أن التقلبات الناجمة عن الطبيعة الجسدية للنساء تترك أثرها على منتجها الفني. ونعتقد أن هذا يتجلى أولاً في حساسيتها لمواضيع معينة واهتمامها بثيمات قد لا تلفت انتباه الفنان الرجل، والثاني هو حساسيتها للمواد. تختبر النساء في حياتهن اليومية نُسج وملامس وقوامات ومواد عضوية شديدة التحريض الحسي. وهذا التفاعل العضوي يوسع قدرتها على التعبير ومخيلتها من أجل تمثيل مادي غاية في الحساسية. إن أنماط معينة من التعبير قد يمكن اعتبارها كطرق تعبير مؤنثة بغض النظر عن جنس مبدعها، لذا فإن جيوفانا زابيري في كتباها «الفنان امرأة» تتبنى نظرية أن «مارسيل دوشامب قد فكك نوع الفنان، بمعنى آخر، ذكورته » وتقدم هذا الاعتبار بناءً على ممارسات مارسيل دوشامب عبر اختلاقه لشخصية ر روز سيلافي التي قد وقّع باسمها العديد من أعماله أشهرها صورته الفوتوغرافية «Portrait-of-Rose-Sélavy-1921» التي نفذها المصور مان راي. وهذا التصور الذي يدعو إلى تأنيث الفن لا يسعى للإشارة إلى تفوق أحد الجنسين على مستوى القيمة الإبداعية، فكلاهما لا شكّ ساعٍ إلى الخلق والتمايز، إنما يدعو لإعادة النظر بالنظريات السائدة عن أن الفعل الإبداعي فعل مذكّر.
في المقابل ليست كل الفنانات متخصصات فقط في القضايا النسوية، لكننا هنا نود التطرق إلى أمثلة من أعمال لفنانات سوريات يحملن وجهة نظر تجاه وضع النساء وأدائهنّ في الحياة والفن، فكما مثّلت ليلى نصير نضال الجيل المؤسس، تمثّل تجربة ليلى مريود كشف الجسد المؤنث في الفن دون قيود، وتناهض نهى علي الموقف الاجتماعي ضد النساء، و تسائل بيسان الشريف قضايا الحريات الجنسية و تستغرق نغم حذيفة في حوارها مع ذاكرتها المؤنثة. وسنحاول هنا استكشاف هذه الأمثلة وسبر أعماق الفكر النسوي فيها عبر مواضيع أثيرة لدى الفنانات: الجسد والذات عبر الذاكرة.
الجسد والذات عبر الذاكرة في أعمال فنانات سوريات
في مقال «كتابة وقراءة السيرة الذاتية لتشكيل الوعي: إذا كان الشّخصي سياسي، هل يمكن النظر إلى السيرة الذاتية على أنها وثيقةٌ نسويّة؟» تكتب المنظرة النسوية هيلين بانان: «لطالما كان الكشف عن الذات مهمًا في علم أصول التدريس النسوي، والإصرار على توضيح الكاتبة لوجهة نظرها هو سمة مميزة للدراسات النسوية». إن الانطلاق من الذات ووجهة النظر الشخصية عن الوجود والعالم والقضايا الإنسانية هو أحد أبرز سمات الفن النسوي عالمياً. فالتجربة الشخصية والعيش اليومي والأحداث في حياة الفنان هي مصدر للإلهام لدى الفنانين من الجنسين، وكون النضال النسوي يفكر في هذه اليوميات ويسائل سلوك المجتمع إزاءها فليس غريباً أن تنطلق الفنانات السوريات من ذواتهن، وصورة تلك الذوات بمنحاها الشكلي متمثلاً بالجسد، ومنحاها الذهني متمثلاً بالذكريات والأفكار، لتصميم أعمالهن. كما أن بانان تنقل في مقالها ذاته عن الكاتبة النسوية مورين موردوك بأنها تؤكد على «الطبيعة المجزأة والانتقائية للذاكرة، والتي، على الرغم من أنها ليست دقيقة دائمًا من الناحية الواقعية، فإنها تنقل حقيقة عاطفية ضرورية في تطوير الهوية.» لذا يظهر مراراً في عمل الفنانات بحث عن الهوية الجندرية عبر بحث في الذات وجزئياتها. إضافة إلى ذلك وعدا عن القضايا العامة، يتضمن هذا البحث استغراقاً في الجوانب الحميمية والعلاقة مع الجسد وما يضعه في الجو الحميمي من ملابس أو أسرّة أو حلي أو غيرها.
الجسد والحلي، فوتوغراف ونحت:
في كتاب معرض «الجسد مكشوفاً» الذي أُقيم في معهد العالم العربي سنة ٢٠١٣، نجد لليلى مريود هذا الشرح: «هوية النساء تسكن أجسادهنّ. ثنائية الوجود والمظهر. نساء حقيقيات، مزينات بضمادات، بحليّ، سجينات قناع اجتماعي، مرئيات أو غير مرئيات، سجينات في دور أيقونة الأم والصمت. (…) في نظرتهنّ، نقرأ كيانهنّ العميق، آلامهنّ، أفراحهنّ، مقاومتهنّ، قوتهنّ وهشاشتهنّ ». درست ليلى مريود ( ١٩٥٦- ) في المدرسة العليا للفنون الزخرفية والعمارة الداخلية في باريس حيث تعيش وتعمل منذ العام ١٩٨١ وهي متفرغة للعمل الفني. لدى قدومها إلى باريس لم تكن الفنانة تتقن لغة البلد، وكان هذا محفّزاً لها لتستكشف القدرة على التواصل خارج حدود اللغة وكانت أعمالها أحد مفاتيح هذا التواصل. ولمريود توجّهٌ نسويّ إنسانيّ واضح المعالم، ورؤيتها الفنيّة تحمل مفاهيمَ عميقةً متعلّقة بوضع المرأة وتركيبتها. عبر هذه الثنائيّات المتناقضة تقدّم مريود تجسيداً عن حال المرأة بغض النظر عن انتمائها الجغرافيّ، وعن التقلّبات التي تعيش فيها مجبرةً بسبب حصار القوالب الاجتماعيّة، بما فيها إلزامها بطهرانيّة الأمومة وأحكامٍ مسبقةٍ خانقة. على هذا النحو، تتشكّل في أعمال ليلى مريود مساحاتٌ يتبدّى فيها الجسد المؤنّث بكامل حريّته مناهضاً لأيّ إجبار أو تقييد. ولطالما خاضت الفنانة في التجريب دون حدود باستخدام الصورة الفوتوغرافية أو الرسم أو النحت، فهي تكوّن عالماً خاصاً نرى فيه أن الجسد البشري ذاته هو خامة العمل لديها وأن الحليّ هي طريقة للصياغة النحتية، ثم تقوم بتثبت اللحظة عبر الصورة الفوتوغرافية ونعتقد أن هنا ليست تجميلية، إنما تظهر كقيود تقيد المرأة بمظهر محكوم بالصورة النمطية عن النساء.
الهوية المؤنثة عبر أغراض النساء، إنها مجرّد امرأة
«لا تصغِ! إنها مجرّد امرأة !» هو عنوان عمل للفنانة بثنية علي (١٩٧٤- )، صمّمته عام ٢٠١٠م. في هذا العمل، كان هناك خزانتان حديديتان بارتفاع ٢١٠ سم بطبقات متعددة. في شرح عن العمل تصف الفنانة: «توجد بداخل كل خزانة حقائب تحتوي بدورها على أغراض شخصية لعدّة نساء… احتوت كل خزانة على جهاز تشغيل صوتي (MP3) سُجّل عليه صوت امرأة تتحدّث بشكل عام عن مشاكلها اليومية وعن حياتها فيما يتعلّق بالرجال عامة في وسطها الاجتماعي. ولقد تم اختيار نساء من بلدان مختلفة وخلفيات متنوعة، في المجموع كان هنالك ثلاثون حقيبة وثلاثون جهاز تشغيل صوتي لثلاثين امرأة. وفي كل مرة، عندما يكون باب الخزانة مغلقاَ يسمع المشاهد الصوت ويرى الضوء، وعندما يقوم بفتحه فإن الصوت والضوء يختفيان.» تمثل إذا كل واحدة من الحقائب الحياة الخاصة لكل امرأة، كل واحدة موجودة في حجرة تختبئ من العالم الخارجي، ما إن يفتح الباب حتى تتوارى، كأن فتح الباب اقتحام لخصوصيتها، إنها تصرح صوتياً بقصتها عندما تريد هي فقط. إن فكرة محتويات الحقيبة تشير تقريباً إلى الهوية الجندرية، ففي داخل كل منها دلالات على متطلباتها اليومية، على عناصر ترافقها قد ترتبط بالذكريات أو بالحاضر. إن استخدام صوت النساء في هذا العمل له دلالة على رغبة بحضور أقوى للمرأة، إن غابت صورتها يحضر صوتها، وهذا ما فعتله أيضاً بيسان الشريف في عملها التركيبي «دخلت مرّة في جنينة».
دخلت مرة في جنينة، الذاكرة والذات
لتأسيس مشروع «دخلت مرّة في جنينة» انطلقت بيسان الشريف (١٩٧٨- ) من تساؤلها الشخصي حول المآلات الشخصية الجنسانية للنساء العربيات في ظل الحروب والظروف العنيفة التي تعيشها أو عاشتها البلدان العربية. وقد تضمن هذا المشروع الذي عُرض لأول مرة في بيروت عام ٢٠١٩ مجموعة من الأعمال التركيبية والتفاعلية، تمثل قصصاً شخصية لسيدات يروين ذكريات أو تحولات في حياتهن الحميمية بتحريض من أسئلة تم طرحها عليهنّ في مقابلات. من ضمن الأعمال فيديو يركز على صورة للمطربة السورية أسمهان، هي التي تعتبر رمزاً، وإن كان من الصعب التحقق من جميع الوقائع المحيطة بها، للتحرر والتمرد النسوي والخروج من السطلة الذكورية الثقيلة لعائلتها. في هذا الفيديو تطفو الصورة على سطح مائي ضحل، وهي صورة مطبوعة على مادة ورقية تتبدد تباعاً مع تقدم الفيديو حتى يتناثر اللون فيها وتتفسخ ثم تتلاشى مع دفقة من الماء. يرافق هذا الجانب البصري صوت كريستيل خضر وهي شريكة فنية لبيسان الشريف في هذا المشروع، أثناء شرحها عن أغنية أسمهان عنوان المشروع ذاته، وتروي قصة بيسان ذاتها. في البيان الفني للمعرض يرد التالي: «ركزت الأسئلة على الذاكرة الحميمة للشاهدة وتجاربها الجنسية الأولى، والتحولات التي حدثت في تلك التجارب في زمن الحرب. الحرب هي الوقت الذي تسقط فيه جميع أشكال الرقابة، وتتغير حواجز الطبقة الاجتماعية، ويتم إعادة هيكلة الفضاء الخاص مما يؤثر على الجسم والوعي بالتجربة الجنسية.» إن ما يميّز هذه التجربة الفنية هو اعتمادها على التداعيات العاطفية والذاكراتية والابتعاد عن تمثيل بصري مباشر للإشارات الجنسية على عكس العديد من أعمال فنانات عربيات مناهضات لتغييب الرغبات الجنسية للنساء. وهذا الاستنباط من الذاكرة بإمكاننا تتبع صورة أخرى له لدى الفنانة نغم حذيفة.
الاستغراق في الذات، الاتحاد مع قميص نوم الجدة
في كتاب معرض ثورات شخصية، تكتب الفنانة والمؤرخة الفنية نغم حذيفة (١٩٨١- ) حول رسومها الزيتية التي تمثل قميص نوم جدتها، لوحات تحاكي الجسد الواقعي بقياساتها، مصوّرة الجسد دون الرأس، كيف أن هذا القميص يدعو إلى «طرح أسئلة جوهرية من الممكن أن تكون فلسفية أو دينية أو ذاتية. فهذا الرداء الليلي لا يمكن أن يُرى أو يُعاين أو يُعرض إلا لشخص مقرّب جداً. إنه لحظة حميمية قد تُرى أحيانا، ولكن من خلال المرآة، وهذه النظرة التي تبدي هنا بعض التحفظ ستختفي بدورها لتحول ما هو مخفي إلى مرئي.» والحميمي كما تعرّفه الكاتبة والقيّمة الفنية ماري باجي في كتاب «الفن النسوي: الأشكال المختلفة للحميمية في أعمال فنانات نساء» هو «الداخلي، المغلق، غير المتاح للجمهور… الداخلي، بمعنى عكس السطحية، العميق » إن هذه الرسوم التي ابتدأتها الفنانة منذ عام ٢٠١٢ بعد انتقالها للعيش والعمل في فرنسا تدفع بالأسئلة الذاتية إلى سياق عام، متعلّق بالبحث عن جذور عاطفية مؤنثة محرّضة للإبداع، فقميص النوم الأبيض بقماشه الخفيف هو عنصر من العناصر المشتركة بين النساء عالمياً، ومفردة فنيّة ظهرت في لوحات رامبرنت وبيكاسو و لوتريك. إضافة إلى البعد العاطفي متمثلاً بالحنين إلى الأم الجدّة، فإن هذا القميص الذي تصوره الفنانة أبيضاً كاشفاً بعض الجسد، ملاصقاً له في مواضع أخرى، يستحضر ثيمات مؤنثة حميمة أخرى، فهو رفيق النوم والانفراد إلى الذات.
استنتاجات
إن أهمية هذا السياق الفني تكمن في محاولة تغيير الصورة النمطية عن نشاط النساء من قلب الفعل الفني وعبره. بقول آخر، بالرغم من أنه من الممكن إثراء الفعل الفني والأسئلة الفلسفية الجمالية المتعلقة به، بالأسئلة الجندرية، إلّا أن غايات الفنانات في الأمثلة الواردة كانت صميمية ورافدة للقضية النسوية وليس العكس. لكن بالرغم مما تقدمه هذه الأمثلة من قيم داعمة إلّا أنه ربما مازال من المبكر الحديث عن خطاب نسوي استطيقي مرتبط بالفن السوري، فهو مسار قيد التشكل. في المقابل، رغم أنّنا لا نشهد العديد من المعارض أو التظاهرات المخصّصة للفنانات السوريات على غرار معرض ثورات شخصية الذي أقامته أتاسي في السركال عام ٢٠١٨، إلا أن هذا ليس مؤشراً على تغييب الفنانات، فهن حاضرات في معظم المعارض الجماعية، و العديد من المعارض الفردية.
إن التجربة النسوية في المشهد الفني السوري المعاصر تتسم بعدم التطرف أو تأطير الذات بمقارنات مع نتاج الفنانين الرجال، بل تبدو في سعي إلى منهجية فكرية استحقاقية. لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن تعزيز مكانة المرأة في الفن التشكيلي السوري المعاصر لا يقتصر على دور النساء. بإمكاننا على سبيل المثال استحضار تمجيد نذير نبعة للمرأة فلوحاته تكاد تخلو من عنصر آخر غيرها، محمّلاً صورتها الموضوعات الكبرى على رأسها القضايا الوطنية والنضالية. كذلك في أعمال منذر كم نقش، إذ تبرز المرأة بمشهد متسامي، بصورة أسطورية جليلة سابحة في السماوات محاطة بالغيوم، ونرى في لوحات تكريتي مشاهد عائلية عديدة، تظهر فيها الأم والجدة كسيدة تسود على المشهد، بل على أعمال الفنان بمجملها واستلهامه، وحتى حين رسم عن الحرب جسدها عبر مجموعة أعمال السيدة بالأسود، وكذلك جسد مدينة تدمر بامرأة، مع الإشارة إلى أن استخدام تكريتي للباس المحافظ في بعض هذه اللوحات يشير إلى دلالات متعلقة بالهوية السورية وليس رغبة منه بتأطير المرأة. أما عن صفوان داحول، فتجسّد المرأة العالم بأكمله، المدن والأحلام، وحيث نرى في “أحلام” صفوان داحول مساحاتٍ حرّةً توسّع معنى الأنوثة لتلامس تخومَ حقولٍ بسيكولوجيّة أو فلسفيّة أو حتّى جغرافيّة، وأمثلة كثيرة لا يسعنا هنا حصرها وربما تتطلب بحثاً منفصلاً، لكننا نثمن وجودها على ساحة المشهد الفني السوري المعاصر.