العدد الثاني عشر …. النصف الثاني من شهر تموز يوليو من عام ٢٠٢٣ …. الأدب النسوي السوري.. انكفاء الشعر وسيطرة الرواية الوثائقية
لم تكن حالة الأدب التي شهدتها سوريا خلال العقود الخمسة السابقة للثورة، بأحسن حالاً من بقية الجوانب الحياتية الأخرى في ظل نظام البعث، وخصوصاً خلال حكم الأسدين الأب والابن.
ولم يفصل النظام بين الفنون الأدبية، بمختلف أشكالها وروّادها، عن الجانب السياسي بالمطلق. تجلّى ذلك في إخضاع المنتج الأدبي لرقابة صارمة، وارتبط بالحصول على ختم الموافقة من “دائرة رقابة المطبوعات”، قبل التفكير بطباعة ونشر المُنتج الأدبي ووضعه بين يديّ القرّاء.
الحال هذه تنطبق على كتّاب الأدب من الجنسين، إلا أنها تختلف تبعاً لحجم ومضامين النتاجات الأدبية بينهما، إذ غالباً ما يختلف السرد الأدبي النسوي عن سرد الأدباء من الذكور؛ فبينما نجده منحازاً بالعموم نحو مختلف قضايا المجتمع والعواطف الإنسانية عند الفريق الأول، نراه عند الثاني يتناول في مجمله قضايا سياسية يحاول الكاتب إقحامها في أغلب تفاصيل أدبه.
وبرغم كل ما واجهته الحالة الثقافية السورية عموماً والأدبية على وجه الخصوص، من محاولات حثيثة جهد من خلالها نظام الأسد على أدلجتها وتأطيرها، إلا أن ذلك لم يمنع العديد من الروائيات والشاعرات والقاصّات السوريات من التميّز والاختلاف، محلياً وعربياً ودولياً.
الأدب النسوي قبل آذار 2011
تبيّن الشاعرة “سميرة بدران” في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، أن “الأدب كان مقيداً، وهدفاً للنظام، وخضع مختلف الأدباء والشعراء والمفكرون للرقابة الأمنية.
ومخبرو النظام كانوا يتوزعون على المراكز الثقافية والملتقيات الفكرية يكتبون تقاريرهم الدورية التي تتناول فكر وانتماء وتوجه ومضامين نصوص كل روائي أو شاعر أو قاص”.
وتلفت بدران إلى تعرضها، مع العديد من أقرانها الكتاب والأدباء للاستجواب والتهديد لمجرد قراءة قصة أو إلقاء قصيدة، مستذكرة تجربة حدثت ذات أمسية شعرية جمعتها مع الشاعر الراحل “إسماعيل الخلف” في مركزٍ ثقافي، عام 1988، حين تعرضا للاستجواب واعتقل على إثرها الخلف.
والحال، فقد حُبست الأصوات وخاف كثير من النساء المبدعات من الكتابة الأدبية أو النشر، فالنظام لم يميز في التنكيل بين امرأة أو رجل، ورغم ذلك قدمت نساء كثيرات الأعمال المتميزة التي ألغت الفرق بين الأدب النسوي والأدب الذكوري، وأسكتت كثيرا ممن كان يضع الأدب النسوي في نهاية القائمة.
ولعل أكثر ما ساهم في استمرار الإبداع الأدبي النسائي في سوريا، هو وجود أديبات وشاعرات سوريات مشهورات، وضعن أسس الأدب النسوي في سوريا منذ ما قبل حقبة الأسد، كغادة السمان وكوليت خوري وليلى بعلبكي وقمر كيلاني وألفت الإدلبي وغيرهن الكثيرات.
بعد آذار 2011
بإلقاء نظرة سريعة على الأدب النسوي الذي أعقب اندلاع الثورة، ستبرز ملاحظات ثلاث، الأولى تتمثل في حصول انخفاض كمّي واضح في الإنتاج إذا ما قارنّا بينه وبين ما نُشر لنفس الأديبات قبل 2011، سواء في الرواية أو القصة أو الشعر.
الملاحظة الثانية، تتضح عبر المقارنة بين أنواع الفنون الأدبية، حيث نجد أن القصيدة تأخرت عن الرواية والقصة. يرجع السبب، بحسب بدران “إلى الطقس الذي تحتاجه القصيدة والذي لم يتوفر للعديد من الشاعرات لذلك انتقلن إلى الرواية والقصة، فهما الأقدر على التوصيف وسرد التفاصيل”.
أما الملاحظة الثالثة، فتنتج من خلال المقارنة بين نتاج الجنسين، حيث يتضح أن النتاج الأدبي النسوي، وخصوصاً في الشعر، أقلّ من نتاج الأدباء الذكور.
ولكن، بالرغم من قلتها ومحدوديتها، تبقى التجربة الأدبية النسوية خلال سنوات الثورة أكثر جرأة وواقعية ومأساة وحساسية؛ فالشعور بالغياب وفقدان الأحبّة والتهجير والموت، وكل التداعيات الإنسانية الأخرى، تبدو أكثر اقتراباً للحقيقة لدى الأنثى.
وتتوجّب الإشارة أيضاً إلى أن النتاج الأدبي النسوي السوري، الذي أفرزته الثورة، تُرجم غالبيته إلى معظم لغات العالم، ونال العديد من الجوائز العربية والدولية، ونذكر هنا أعمال وتآليف: روزا ياسين حسن، وسمر يزبك، وديمة ونوس، وشهلا عجيلي، وسوسن إبراهيم، وغيرهن من الأديبات اللواتي أضفن أسلوباً سردياً جديداً تفوّق على نمطية السرد القديم المحكوم بخطوط الرقابة.
كيف تجلّت الثورة في النتاج الروائي النسوي؟
غلب على أدب الرواية في العموم الطابع السردي التوثيقي، ورغم ذلك استطاعت الروائيات السوريات توظيف ذلك التوثيق في تفاصيل وشخصيات روائية مبتَكرة.
وكثيرة هي الأمثلة الأدبية التي نلمس فيها الأثر المباشر لأحداث الثورة السورية على تفاصيلها وصورها السردية، نكتفي هنا بعرض ثلاثة منها، على سبيل المثال وليس الحصر.
في حوار أجرته معها إحدى زميلاتها في العام 2014، رأت “روزا ياسين حسن” أن الوقت ما زال مبكراً كي تبدو معالم المشهد الروائي السوري، فبحسب تعبيرها أن “ما حصل ويحصل في سوريا هو هزّة كبرى، تشبه الهزّات الكبرى التي حصلت في العالم عبر التاريخ من ثورات وحروب وكوارث، لن تعود سوريا كما كانت قبلاً، ولن يعود السوريون كما كانوا، سيتبدل كل شيء”ثم تعلن روزا عن عدم امتلاكها لأي تصوّر دقيق عن تفاصيل التغيير “لكن التغيير قادم كمعجزة” بحسب وصفها.
بعد نحو عامين، تجلّى كلام روزا السالف عبر روايتها “الذين مسّهم السحر.. من شظايا الحكايات” إذ صوّرت من خلالها ذلك التغيير الذي أحدثته الثورة على السوريين؛ وربما لم يكن التغيير الذي تمنّته، إلا أنها نجحت في التعبير عنه، وتوصيفه بإبداع منقطع النظير، عبر الرواية.
في روايتها، لم تنساق كبعض الأدباء الذين ادّعوا الحيادية في سردياتهم، بل تحدثت عن الثورة، وعن مجازر النظام، واعتقالاته، وترهيبه الناس، وعن تجييشه الطائفي، وتحويله أبناء طائفته لقتلة وقطاع طرق و”عفّيشة”، وعن اضطرار المحتجين لحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم وأعراضهم، وعن مواقف الدول واستغلالها.
تحدثت روزا ياسين عن كل ما حصل من “تغيير” طرأ على السوريين، بلغةٍ ما كانت لتتمكن من كتابة كلماتها لولا حدوث ذلك التغيير أصلاً.
ويُعدّ نصّ “تقاطع نيران” للكاتبة “سمر يزبك” توثيقاً وشهادة على الأشهر الأولى لثورة السوريين، وكشفت فيها عن مزيج مخيف من التحدّي والبطولة والخوف والعجز واليأس والحزن والغضب، وكل ما يخطر على بال قارئ من مشاعر.
يزبك تحدثت في نصها الروائي التوثيقي عن حالة تلبُّس المعيشة اليومية للناس بالسياسة، تناولت قصصاً وحكايات منها ما تعرّض له عموم السوريين من كوارث، ومنها الشخصي الخاص بسمر يزبك وما تعرضت له خلال الاعتقال لا سيما لحظات الوقوف أمام الضابط الذي صفعها صفعة أسقطتها الأرض ليتبعها بقوله “انتِ عار على العلويين”.وفي روايتها “الخائفون” التي أطلقتها في العام 2018، تحدثت “ديمة ونوس” عن سنوات الخوف التي سبقت الثورة، فجميع شخصيات روايتها، المبتكرة، يسيطر عليها الخوف (مرضى نفسيون يجتمعون ضمن عيادة للطب النفسي) ليغدو ذلك الخوف وكأنه نمط اجتماعي طبيعي مُعاش تحت ظل نظام الأسد.
ديمة التي كتبت كلمات روايتها بعد اندلاع الثورة ومغادرتها البلد إلى لبنان، كان بإمكانها كتابتها قبل ذلك، لكنها بالطبع لم تكن لتصلنا لولا ذلك “التغيير” الذي أشارت إليه روزا ياسين.