العدد الثالث عشر ..النصف الاول من شهر أب أغسطس من عام 2023 …الطبيبة والروائيّة نغم حيدر (ألمانيا): الكتابة ضدّ الفناء

هناك دومًا قصّةٌ يشترك فيها أغلب الذين خبروا السجن سنواتٍ طويلة بطلها القلم. في الزنازين، حيث يُمنع على السجين امتلاك أي شيءٍ قادرٍ على الكتابة وحفر الخط، تتولّد لدى السجين رغبةٌ عارمة في الكتابة قد تضاهي رغبته في الانعتاق والحرّيّة، وتصبح الحاجة إلى الكتابة شبيهة بالاحتياجات البشريّة الغريزيّة.

جوعٌ للكتابة، عطشٌ للكتابة. هناك من يحفر الجدران بأظافره كي يشكّل حروف اسمه أو ذكرى تخصّه أو أيّ جملةٍ تخطر على باله، كي يجدّد إحساسه بكيانه وبوجوده، مهما كان شقيًّا. الكتابة ستبقى مستمرّة ضدّ الفناء.لا تقلب الكتابة موازين ولا أنظمةً، وهنا أتكلم عن الكتابة الروائيّة في عالمنا العربي بالتحديد. هي اشتغالٌ على الإنسان بتفكيكه ومحاورته، مناداته وتصوير صراعاته، وقد تتدخّل في تكوينه ووجدانه في حال كان قارئًا. لكنّ تأثيرها على العقل الجمعي والعمليّة السياسيّة محدود.

الرواية ليست قادرة على إحداث التغيير، لكنّها يمكن أن تكون جزءًا منه ومن مسيرته. لا توقف عنفًا، ولكنّها تعرضه، تسمّيه. إنها تُرينا العنف الذي دفنه القمع في أعماقنا حتّى أصبحنا نظنّه منّا، ولم نعد قادرين على فصل أنفسنا الحقيقيّة عنه.. الرواية قادرة على صنع عوالم ترفد معرفتنا بالمحيط، وأنا أعتبر أنّ المخيّلة والافتراض هي بعد من أبعاد الكون، صنعه وعي الإنسان لا يمكن اختباره إلّا بتدوينه وكتابته.سأعود الآن إلى الموضوع الأساسي، وأتحدث عن المرأة تحديدًا.

سُئلتُ مرّةً في مناسبة عيد المرأة، عمّا يمكن للأدب أن يقدّمه لنساء؛ فأجبت أنّ كلّ ما علينا فعله هو أن نكتبهنّ ونحتاج لهذا إلى وقت يتعدى أعمارنا.

بطلاتٌ كثرٌ سنكتب عنهنّ ونحن موقناتٌ أنهنّ لن يقرأننا، وأنّ القراءة ضربٌ من الرفاهيّة والترف لا تقوى النساء اللواتي يعانين، عليه.

تحفل كتاباتنا بنماذج إنسانيّة وقصص لن تصل إلى يد الظالم أو القاتل أو المُسبب لكلّ هذا الألم، لهذا فإنّ جدوى الكتابة لا يمكن اختبارها في المدى المنظور. سنكتب ربّما للأزمان اللاحقة والأجيال الجديدة والقادمة التي نتمنى فعلًا أن تحظى ببعض الاستقرار، كي تطّلع على النتاج الأدبي في هذه المرحلة.

أحاول في كتاباتي أن تكون المرأة بطلةً لحالةٍ إنسانيّةٍ، لا لقضيّةٍ تخصّ النساء بالتحديد، إذ لطالما كان البطل يعامل في الروايات على أنّه يمثّل حالة إنسانيّة جمعاء، أمّا مشكلات المرأة في الرواية، فتبدو كما لو أنّها تخصّها وحدها، وتعامل البطلاتُ في الكتب -كما في الواقع- على أساس أنّ الأزمة أو المظالم التي تتعرّض لها لا أحد معنيٌّ بمحاربتها سواها، ولن يشعر بها سواها.

الطريقة التي نطرح بها قضايا المرأة لها دورٌ كبير في صياغة ردّة الفعل عليها، إذ إنّ الأساليب النمطيّة ليست سوى اجترار للمظالم نفسها. أعتقد أنّ الكتابة عن المرأة يجب أن تتحرّر أيضًا من شكلها التقليدي، وتنقلب على نفسها، كي لا تبدو قضيّة المرأة كجزءٍ من كُلّ وإنّما ككلّ يشمل الجميع.

وهنا أتبنى طرح سيمون بوفوار عن المرأة، في كتابها «الجنس الآخر»، وأحاول ترجمته وممارسته في الكتابة على أنّها ذاتٌ وكيان، بغض النظر عن الخصوصيّة التي تُربط بها على أساس الجنس. وجود المرأة في الكتب، كرمزٍ إنساني بحت، أمرٌ مهمّ وجوهري، لتخليصها من كذبة الخصوصيّة تلك، وتحريرها من أدوارٍ يبدو فيها الرضوخ أمرًا لا مفرّ منه. جميعنا ككتّاب، وليس فقط ككاتبات، معنيّون بالتجديد في الطرح والأسلوب.

تناولتُ في روايتي الثانية «أعياد الشتاء»، على سبيل المثال، صورة الإنسان الذي استمرأ الاضطّهاد وتدخّل في كيانه، فأصبح من الصعب عليه، وإن هاجر إلى بلدانٍ أخرى وابتعد، أن يعي حرّيّته ويفهم نفسه الحرّة ويتعايش معها. إنسانٌ لم يعد بإمكانه حتّى فصل الرضوخ عن ذاته. كانت إحدى البطلتين في الرواية رمزًا لهذا الصراع.

وأشعر أنّني معنيّةٌ بالأثر المديد والبعيد وغير المرئي أو الملموس للدكتاتوريّات الذي تراكم عبر أجيالٍ وأزمانٍ، ولم يكن وليد هذه المرحلة.

الاستبداد الديني والمجتمعي يولّد ذلك الخلل في نفوس البشر، وتختلط عليهم الأمور، فيظنّ من لا يستطيع ممارسة التسلّط في جوّ عائلته أنّه فاقدٌ للرجولة، وتظنّ المرأةُ التي تُمنع من العمل أنّ الأمر امتيازٌ لها. لقد غيّر الاستبداد دفّة الصراعات التي أريد تناولها في الكتابة، فتحوّلتُ من محاولةٍ لإثباتِ الذات إلى محاولةٍ لفهمها وتحريرها من كلّ ذلك العفن العالق بها.

جدوى الكتابة أمرٌ لا يمكن الحديث عنه دون التطرّق إلى واقع القراءة حقيقةً. أن يستمدّ الكاتب عزيمته ومعنويّاته وعزاءه من خلال الكتابة فذلك أمرٌ يخصّه، لكن تبقى الكتب قاصرة إن نُبذت وتُركت ولم تتواز عمليّة الكتابة مع رغباتٍ متنامية بالقراءة وانفتاح على كلّ ما يمكن أن يقدّمه الأدب. لا أنتظر نتيجة سريعة في هذا السياق، بل أعوّل دومًا على الوقت.. فهو الذي سيكشف في النهاية جدوى كلّ هذا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »