العدد الخامس عشر ..النصف الأول من شهر أيلول سبتمبر من عام ٢٠٢٣…من ملف الروائيات السوريات : الروائية السورية أنيسة عبود : أنا عدة أنوات في أنا واحدة, وعدة نساء في امرأة واحدة

تبدأ مجلة حواء النسوية الالكترونية بداية من هذا العدد ، الخامس عشر ، بنشر وملف عن الروائيات السوريات لتقديم صورة عن الرواية السورية و موقع المراة و البعد النسوي فيها

ملف الروائيات السوريات لهذا اليوم يتناول الروائية أنيسة عبود .

تعد الأديبة أنيسة عبود واحدة من المبدعات السوريات الأكثر حضورا على الساحة الثقافية السورية والعربية، فوزها بالجائزة الأولى في الرواية العربية-المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، عن رواية \”النعنع البري\” التي كانت بمثابة المفصل الإبداعي الحقيقي في حياتها الأدبية. شاعرة وأديبة وروائية (من مواليد 1957) عضو اتحاد الكتاب العرب. دكتورة مهندسة باحثة في العلوم الزراعية، عملت في الصحافة السورية والعربية منذ بداية طريقها الأدبي. المجلة الثقافية الجزائرية التقت بأنيسة عبود، وسألتها عن الكتابة، عن تأثير البيئة وعن النص وعلاقته بالآخر. فكان هذا الحوار:

الشاعرة والروائية والقاصة والكاتبة الصحفية والمذيعة والباحثة، وجوه متعددة لشخصية انيسة عبود، أي الوجوه هي الأقرب إليك ؟
أنيسة عبود: لا أعرف أي الوجوه تشبهني ..فانا عدة أنوات في أنا واحدة , وعدة نساء في امرأة واحدة. لذلك قلت في إحدى قصائدي ( ما أكثرني مزدحمة بنفسي ما اشد وحشتي ليس في عيني أحد .). هذا يلخص تعددي ووحشتي معا\” ..لذلك ابحث في القصيدة وفي الرواية وفي باقي الأشكال الأدبية عن نفسي القلقلة.. لكني أحب كل هذه الوجوه وخاصة الشاعرة التي تكسر كل الدوائر حولها من خلال الترميز والتخييل وخلق الصور المبتكرة في لحظات الألم والاحتجاج مع أن المقاعد الأولى – في الوقت الحالي – ليست للقصيدة بل هي للرواية . لكن لأعترف الروائية تقبض على الزمن أكثر .

هل تؤمن انيسة عبود بأن (الإنسان ابن بيئته) ؟
أنيسة عبود: نعم البيئة تتدخل في ذاكرتنا ولهجتنا ولوننا.. كما تتدخل في المخزون الثقافي والفكري والجمالي للإنسان .لذلك لا بد للبيئة من أن تفرض حضورها في النص وفي الجدل مع الأمكنة والأشخاص والهموم المندرجة في بيئة ما .من هنا تنوع البيئات يؤدي إلى تنوع الإطار والمضمون والأخيلة أيضا\”.

كيف أسهمت البيئة الريفية بجمالها في تشكيلك إنسانيا\” وإبداعيا\”؟
أنيسة عبود: للبيئة الريفية التي نشأت فيها دور كبير في تهيئتي النفسية للكتابة ..لقد كانت هذه البيئة – بالإضافة إلى جمالها – كانت قاسية وصارمة على الرغم من اتساعها وتنوعها وفضاءاتها المفتوحة على الأسطورة والخرافة والقصص الشعبي ..فكانت كتابتي في البداية كنوع من الاحتجاج على الفقر والتخلف والفوارق الطبقية والعائلية والعادات والتقاليد ..وظهر ذلك في روايتي ( النعنع البري ) إذ غرفت من المخزون الريفي لذاكرتي وذاكرة الآباء
لكن لا بد من الاعتراف بأن الطبيعة الساحرة الممتدة بين البحر والجبل أمدتني بمفردات جديدة ومبتكرة بحيث أنسنت الشجرة وصادقت الطريق الترابي الموحل وحكيت للعشب سيرة فتاة عاشقة تريد أن تتحول إلى فراشة لا تحدها الحقول ولا تفزعها حكايات العرافات في القرية.
غير أن هذا كله لا يلغي أن الريف المعزول عن المدينة وعن الكهرباء والطرق المعبدة أجبرني على الالتصاق بضوء الكاز وبمنقل الحطب حيث يتناوب خالي وباقي الكبار على قراءة القرآن .أو سرد ألف ليلة وليلة , أو قصة الزير سالم .أو حكايا الجان المفزعة الذين يحولون المرأة إلى صخرة نازفة ..فامتلأت مخيلتي بهذا الرعب والجمال .وعندما وعيت معنى الكتابة رحت أبحث سرا\” في كتب أخوتي الكبار , فوقع في يدي كتاب – ذهب مع الريح .وآلام فرتر وكتب سياسية وقصص قصيرة لأخي الذي كان قاصا\” موهوبا\”. فوجدت في الكتابة خلاصا\” من ضيق المكان وانحيازا\” للفقراء والمضطهدين..

تؤكدين دائما\” على أن الرواية هي المفصل الأساسي في حياتك الأدبية رغم قدرتك السردية على الإبداع في أكثر من مجال أدبي , لماذا ؟

أنيسة عبود: الرواية قادرة على تفسير جدلية التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .. وهي بيئة مناسبة لان نزرع فيها الأزمنة المتداخلة بحيث تتبلور قدرتنا الأسلوبية وموهبتنا اللغوية في تكثيف تاريخ طويل وتحويله إلى أفكار على هيئة بشر يتحركون بين القارئ والراوي ..بين البياض والحبر عبر إشارات مبتكرة يبتدعها الكاتب . وهذا الذي فعلته أنا في أول رواية كتبتها ( النعنع البري )، تحدي الأشكال التقليدية والمضامين الكلاسيكية .خرجت عن المألوف .. ووجدت أنها تناسب قلقي وضجيج روحي الذي لا تتسع له القصة بحكم محدوديتها وقوانينها الصارمة . وكان أن نلت جائزة الرواية العربية من المجلس الأعلى للثقافة في مصر على أول رواية كتبتها وكان المنافسون لي من أهم كتاب الوطن العربي.. فأكدت لي الجائزة صواب طريقي الذي تبلور وترسخ .. مع أني كنت قد نشرت أربع مجموعات قصصية وديواني شعر ومئات المقالات الأسبوعية ..وسبق و نلت للمرة الثانية جائزة القصة القصيرة ..وما زلت أكتبها ولكن لم تعد هي بطلة هذا الزمن فانحزت للرواية كسيد يتربع على كرسي السيادة لكل الأشكال الأدبية .

في روايتك النعنع البري مزج بين الواقع والخيال والأسطورة حد التساوي داخل أزمنة الرواية، وحكائيتها معا\” هل قصدت إثارة الأسئلة داخل مخيلة القاريء؟

أنيسة عبود: هناك لغة أخرى غير لغة الكلمات . هناك لغة الرموز والأسطورة ولغة الطبيعة والأمكنة كما أن هناك لغة للجسد وللعادات والتقاليد.. وحتى نفهم العالم المحيط بنا، علينا فهم كل هذه اللغات , وعلينا مزجها ومخاطبتها حتى نشكل لغة مشتركة أو نصا\” مشتركا\” يثير أسئلة مهمة حول الكون والكينونة ومجد اللغة التي تعبر عن الحاضر والماضي وتخلق فضاء خاصا\” يتنقل بين المجرد والمحسوس وتعطي النثر حيوية وقدرة على التواري والظهور معا\”
من هنا جاءت النعنع البري مكتظة بالأسئلة والحيرة والاحتجاج . وبالعموم إثارة الأسئلة مهمة مقدسة للنص ..بينما مهمة السياسي هو إيجاد الأجوبة وابتكار الحيلة .

يعيش الكاتب غالبا هاجسا من الخوف قبل صدور عمل جديد له الخوف من النقاد ومن المتلقي عموما هل تعيشين هذه الحالة ؟

أنيسة عبود: عندما تبدأ الفكرة بقضم سكوني وهدوئي ..وعندما تبدأ الشخصيات بالهجوم على مخيلتي , لا أفكر بالنقاد ولا بالقراء ..أفكر فقط بإيجاد الأسلوب ( أو الباب ) الذي ستخرج منه هذه الشخصيات المسجونة في رأسي إلى فسحة البياض ..فتبدأ معركة اللغة والتفاصيل وطريقة السرد .إلى أن أنتهي.. وبعد ذلك أعطي العمل لزوجي الطبيب والكاتب أو إلى أولادي ( الفنان أذين العلي والإعلامي قتيبة والصحافية سماح ابنتي ) فنحن بيت قارئ بامتياز والجميع يكتب وينتقد ..وهنا تبدأ مرحلة القلق .أنظر إليهم وهم يقرؤون ..فإذا غرقوا في النص , أطمئن ولا أخاف بعد ذلك ..وهذا ما حصل مع أعمالي كلها إذ لم تخذلني ذائقتهم الأدبية أبدا\” . وهنا لا بد من القول : أنا أومن بأن الناقد يتبع الأديب وليس العكس ..لذلك لا أخافهم .
خاصة أنني نلت أخيرا\” جائزة دمشق للرواية العربية ( مناصفة ) عن روايتي – شك البنت – خرز الأيام – لأن النقاد اختلفوا في النصوص المقدمة ..وعندما يختلف النقاد هذا يعني أن المعايير غير ثابتة وقد تخضع للذائقة الشخصية لا أكثر .

لو سألتك عن معايير الجودة للعمل الإبداعي الأصيل والناجح فماذا تقولين ؟
أنيسة عبود: لا أعتقد أن هناك معايير ثابتة للعمل الأصيل على الرغم من تغني النقاد بها .وإلا لما تغيرت الأحكام على النصوص بين النقاد و بين القراء .ولكن العمل الإبداعي الأصيل ( برأيي ) هو الذي لا يمر عليه الزمن ..ولا تنتهي صلاحيته بانتهاء المرحلة .هو العصي على النسيان وعصي على القارئ أن يهرب منه أو أن يفلت من تأثيره لوقت طويل .هو الذي يظل جاهزا\” لإثارة الأسئلة والأحاسيس والدهشة ..متعدد الدلالات والتأويلات , لا تفك مغاليقه ولا يعطيك نفسه من القراءة الأولى .لذلك لا بد من معاودة القراءة , ومع كل قراءة جديدة يتجدد الشك والكشف لفضاء من فضاءات النص الجمالية والأخلاقية واللغوية .

ا معظم أعمالك تحمل عناوين جاذبة هل تشتغلين على اختيار العناوين أم تأتي مع النص ؟

أنيسة عبود: العنوان مهم جداً .. هو بمثابة مدخل البيت . أو حديقة المنزل.. إذ لا بد من جذب العابر كي ينظر, وعندما يتمتع بالنظر ينتابه الفضول و يود الدخول ..وهنا عملية الإمساك بالقارئ .. لذلك ضروري الاشتغال على العنوان.. مرات أستشير آخرين في العنوان ..ومرات أثبت عليه منذ بداية الكتابة .زالعنوان أحيانا\” يسبق النص الذي أدونه ..لكن أنا لست متشبثة برأيي ..فقد طبعت في دار الهلال المصرية روايتي ( قبل الأبد برصاصة ) وكان اسمها غير ذلك ..لكن هيئة القراءة اقترحت عليّ التغيير ..فأعطيتهم عدة خيارات ..وقد اختارت دار الهلال هذا العنوان من بين عناوين عديدة ولم اعترض .

برنامجك (حروف منتمية .. تجربة جديدة ومميزة في مسيرتك الإبداعية. ماذا أضاف التلفزيون لأنيسة عبود الأديبة ؟
أنيسة عبود: هذا البرنامج جاء نتيجة للحرب الفظيعة على سوريا , حيث اشتدت عزلة الكتاب وعزلة الكتاب .وأصيبت الحركة الثقافية في البلد بنوع من السكون ..وكان أن حدثني بعض الإعلاميين والمخرجين لتقديم برنامج فكري ثقافي ..فرفضت في البداية , لأن هذا العرض جاءني سابقا\” ..وكان أن تمّ الإلحاح عليّ باعتباري من الأسماء الفاعلة في الحركة الثقافية إذ كنت عضوا\” في هيئة تحرير الموقف الأدبي ..ولي مقال أسبوعي في جريدة الثورة ..إضافة إلى مقال مسموع بصوتي في إذاعة سوريانا إف . إم ..فوافقت .. لأني وجدت أنه من واجبي أن أظهر للعالم الذي يحاربنا ويحاصرنا أن البلد فيها أدباء لم يبيعوها ولم ينساقوا وراء مال العربان ولا الأميركان ..فقدمت البرنامج وكان تجربة رائعة مع الكاميرا التي تشغل العالم الآن .ولقي البرنامج صدى واسعا\” بين المثقفين إذ حاورت أكثر من أربعين أديبا\” وناقدا\” مهما , من كتاب الصف الأول في سوريا ..وما زلت أبحث عن الوقت حتى أجدده مرة أخرى .
ولنعترف أن الإعلام المرئي يتصدر الساحة الثقافية وكل دقيقة عبر التلفزيون قادرة على إيصال ما يوصله كتاب بكامله , لأن العصر عصر الصورة ..وقد أفادني هذا جدا\” في روايتي الجديدة التي هي قيد الإنجاز .كما أضافت لي معرفة جديدة بالكتّاب عبر حوارهم والجدل معهم بحيث ظهرت حقيقتهم الإنسانية وجوانيتهم المبدعة والتي لا يكشفها الورق أحيانا . الحقيقة هي أن الصورة كتاب مكثف يضاف إلى منجز الكاتب .

ا نحن – كما تعلمين – نعيش في منطقة محكومة بالظروف الايديولوجية والسياسية والثقافية حتى باتت مقولة ( من ليس معنا فهو ضدنا ) هي الشعار السائد في المرحلة الراهنة ..هل يستطيع المبدع أن يكون حياديا\” حيال ما يجري في منطقتنا من صراعات؟
 أنيسة عبود: ياله من سؤال صعب .. ستضيع القضايا العربية بحجة أن الأدب يتطلب الحياد . وان الأديب غير مطالب بتسخير موهبته إلا للقضايا الإنسانية الكبيرة . .وشعار من ليس معنا هو ضدنا ..هو شعار أميركي عدواني ..الأدب لا يرد عليه ..بل يرد على سؤال ( لماذا نكتب ؟ ولماذا نثير الأسئلة ؟ ..ما هي مهمة الأدب ؟ ) أليس للأدب مهمة تجاه تدمير الاوطان وظلم الإنسان للإنسان؟ تجاه القدس العربية التي يريدون تهويدها ؟ ألا تنتج هوليود مئات الأفلام بملايين الدولارات لتمرر موقفاً أو فكرة ؟
الأدب لا يحق له أن يكون حيادياً تجاه قضايا الأمة وظروفها الصعبة.. لا يحق للأديب أن يكون حيادياً والرؤوس تقطع بالسيف والأطفال يموتون على مقاعد الدرس , والمرأة تسبى وتباع في أسواق الشهوة والذل وتساق إلى زمن يبعد عنا آلاف الأعوام .كبار الكتاب العالميين كتبوا عن قضايا بلدهم وأوجاع شعبهم وهذا أعطاهم الأهمية والانتشار ..فما الذي كتبه ماركيز أو نجيب محفوظ أو الطاهر وطار غير ذلك ؟
المبدع الحقيقي يستطيع أن يوصل رسالته عبر الرمز والأسطورة والتلميح وليس عبر الخطابات الرنانة ..وحقيقة الأمر ..الأديب هو الذي يكتب التاريخ الحقيقي ., بينما السياسي يكتب التاريخ الملفق .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »