العدد التاسع عشر .. النصف الاول من شهر نوفمبر عام ٢٠٢٣….قراءة في الأدب النسوي وتأثيره الثقافي.

أن الخطاب الموصل إلى النص تؤشره حالة التوّحد مع ذاته، أكان هذا الخطاب ذكورياً أم أنثوياً، على الرغم من أننا لا نميل إلى هذا التصنيف، إلا بقدر ما تُتيح لنا رؤيتنا لطبيعة الخطاب وخصائصه، من خلال علاقته بالواقع المعيش من جهة، والواقع المعرفي من جهة أخرى.ولأننا إزاء تقديم قراءة لنص كتبته أنثى، يتوجب علينا أن نوّضح القصد عبر رؤيتنا لهذا النص. فهي قراءة تستنبط القيم المعرفية العامة التي يُرشحها النص، كذلك القيم الفردية لتي تتمسك بها رؤى السارد. إن الخطاب الأنثوي عبر التاريخ على قِدَمه يُشير إلى طبيعة موَّجِه هذا الخطاب، وهذا يتطلب منه أن يكون متمسكاً بنوّع من التفرد والخاصية الذاتية. الأمر الذي يقودنا لتوسيع الرؤية إلى خطاب الأنثى لمحاورته. وحصراً الخطاب الأنثوي العراقي، الذي غلب عليه خطاب صوت الرجل المتداخل مع صوت المرأة، لأن الأنثى منذ نشأتها الأولى، تعيش تحت ضغط سلطات متعددة، وهي في معظمها سلطة جائرة وحازمة وغير متوازنة إزاء وجودها شريكاً معبّراً عن وجوده بما لديه من استعدادات قادرة على صناعة المواقف، ثم سلطة المجتمع والمؤسسة السياسية والتربوية في كل مراحلها، والأهم هو سلطة الأم التي هي خليط من عناصر الضعف إزاء الزوج، ومكمن الانقياد إلى تابو الدين والمحرم والخرافي بكل وسائله. الأنثى الساردة تنشأ وسط هذا الخليط غير المتجانس، حتى بلوغ سلطة الزوج، الذي يحاول صياغة شخصيتها وفق رؤيته كما ذكرت فاطمة المرنيسي في «بنيان الفحولة»، ما ولّد صورة لتكرار خطاب الرجل بعنوان الأنثى. من هنا نستطيع استعارة نظرة القاصّة والروائية رغد السهيل مثلاً في تخريجاتها لبلورة مفهوم سرد الأنثى، الذي ابتدأ باللغة وخاصيتها، وصولاً إلى فلسفة الخطاب الأنثوي، لذا فخطابها إزاء خطاب الآخر المستعين باللغة، فخطاب القاصّة والروائية لطفية الدليمي، عمل على تصفية صوتها من شوائب صوت الرجل، وذلك بالاستعانة بمتن المعرفة، ومزاولة الكتابة الرؤيوية، لا لشيء، إلا بقدر ما عملت على هذه البلوّرة عبر نماذجها في النصوص. كما في رواية «من يرث الفردوس»، إذ لم تستعر صوت الرجل (سحبان) الذي رافق (مزيّنة)إلى الحصن، ومن ثم إلى جبل (المسهج) حيث الخلاص. كما تعاملت مع شخصية الأنثى في رواية «بذور النار» بالمقدار نفسه من المعرفة والبنية الفكرية.. واجتهدت الكاتبة علياء الأنصاري، كي يكون سرد المرأة متوّحداً مع ذاتها، وتمردها على سلطة الزوج السياسية قبل الأسرية، وهي الأستاذة الجامعية ذات الصبغة الدينية في سلوكها وتعاملها مع الطلبة، خاصة من الإناث.

هذا الميّل للتغيير دال على تأسيس كينونة ذات نمط فلسفي وفق منطق الخطاب الأنثوي، وهنا لابد أن نقترب من خطاب السهيل في أطروحاتها. وهي بطبيعة الحال مع ما ذكرته الكتب المعنية بخطاب الأنثى، في ما يخص العلاقة بين الجنسين، فكما تقول إن «لكل فريق لغته الخاصّة التي ترتبط بالخصائص النفسية والتاريخية والاجتماعية. ولن ينجح الحوّار بين الطرفين ما لم يتم تفهّم لغة الآخر. فلا يفرض أحدهما لغته على الثاني، وإلا تلاشى الفرق واندمجت اللغتان.. وأصبح الخطاب بلغة واحدة؛ هي المهيّمنة، وهذا إقصاء لهوية الآخر، فاللغة جزء من الهوية».

هذا القول من الناحية المنطقية صحيح، ومن الناحية التطبيقية أيضاً، فهو خطاب يبحث عن هوية الجنس السارد. ولعل رواية «سيدات زُحل» للطفية الدليمي، تأكيد على ما ذكرناه بشأن الهوية السردية والهوية الوجودية. فالرواية تتضمن جولة في رحاب واقع مدمر وممحوة خصائصه الذاتية والموضوعية، فهو يُلغي أساساً الهويات، لاسيّما بعد عام 2003 في العراق المحتل من أكثر من جهة.

الخطاب الأنثوي عبر التاريخ على قِدَمه يُشير إلى طبيعة موَّجِه هذا الخطاب، وهذا يتطلب منه أن يكون متمسكاً بنوّع من التفرد والخاصية الذاتية.

وقد ساهم مع ما بلوّرة صوت الخطاب الذي دعت إليه الكاتبة الدليمي، بمعنى كان الخطاب ذا محتوى للكثير من مجريات الواقع، الذي كبلته قيّم جديدة، تمحو الخطاب العام والخاص، كذلك ما تجسّد خلالها، صوّر الخطأ الشائع الذي أصبح واقعاً، محتلاً صورة الصحيح بفعل التراكم الكمي الذي لمل يقد إلى تراكم نوعي، فقد أحدث شرخاً بين القيم الموضوعية والأخرى الذاتية. إن الساردة عزمت على التمسك بقيمها التي أوحى بها مستوى الوعي والحساسية، إزاء بؤر اعتبرتها أكثر قرباً منها حسياً. لذا فالحماس الذي كان عندها مترشح من أحقية تلك القيم التي آمنت بها. كما نجده أيضاً في رواية (زكي) في رواية «أحببت حماراً» لرغد السهيل، ومن بعده صاحبه المنتهك بمقياس تهذيب النموذجين. ولهذا دلالة اجتماعية ترشحت من الفقدان الخاص (زكي) والفقدان العام (ضياع القيم)، من هذا نرى أن التعلق بالحيوان ليس حالة شاذّة، بقدر ما كانت تنّم عن حساسية النموذج (المرأة) التي استجمعت كل ما واجهته وتواجهه ضمن التشكيلة الاجتماعية والوظيفية. هي صورة مقلوبة لشخصية (سامسا) في مسخ كافكا.

الفرق واضح بينهما في نوع العينة المفروزة من مجموعة عينات الواقع الذي اختلطت فيه القيم، لكن الدلالة توحدهما. إن البناء الاجتماعي يتأسس على قيّم عليا، يرثها المجتمع، ويُجدد صوّرها ضمن حركة الزمن. غير أن تلك القيم بالمقياس الذاتي، انحرفت عن نصاعة الصورة، بل تهاوت في الخطأ بمرور الزمن، بحيث ولّد هذا نوعاً من الشرخ بين القيم الجديدة التي بنيت على الخطأ، والقيم الذاتية التي حافظت على قيمتها ووحدتها الموضوعية. وهذا الفرز الواقعي كان في متناول تداول النص. ولعل محاولة الكاتبة عبر ساردتها قد تمكنت من رفع الحيف عن القيم المفتقدة، والإمساك بخيوطها خوف القطع النهائي، كما فعل الزمن بالقيم العامة عند الكثيرين المتلونين في المواقف. إن البحث عن النقاء ليس بالأمر السهل، فهو يتطلب تضحيات. وهذا ما فعلته بعض نماذج الرواية، خاصة شخصية (بابا نوئيل). فبنية التاريخ في النص بنية متبدلة في علاقاتها، قد تأرجحت بين التأسيس بمواجهة المُخرّب. فهي بذلك عملية صراع، لم ترده الكاتبة أن يكون شديداً ضمن حراك مفتعل، فقط كان مرماها أن تأخذ بالجزء المؤثر في نظرها «علاقتها بالحمار» لتؤسس من خلالها وجهة النظر.

أعتقد أن الكاتبة عملت كثيراً من أجل أن ترسم معالم غير واضحة بالمنظور الفردي والجمعي عند الآخر، بحيث جعلت ما هو غير منظور منظوراً عبر تأسيس علاقات مفترضة ذات محمولات نسبية لإقناع الآخر. القيم التي تؤسَس تحت ظروف ضاغطة، وبغياب الحياة السوية، وبإرادات خارج المنظومة الاجتماعية، وظهور قيم جديدة سلبية تستهدف محو وجود الإنسان كمواطن، خاصة منطق وصورة الموت الجماعي نتيجة الإرهاب، واحتلال المُدن العراقية في زمن قياسي لوجود خلل بنيوي في واقع المجتمع، لا تتناسب أو تتناغم مع قيم الذات العراقية، فهي ماحقة لصيرورة الفرد والمجتمع، من الصعب تجاوزها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »