العدد التاسع عشر .. النصف الاول من شهر نوفمبر عام ٢٠٢٣…النسوية والفن: تحوّل المرأة من أداة فنية لفنانة فاعلة

نحاول هنا أن نتعرف كيف يمكن للعدسة النسوية أن تغير الطريقة التي ننظر بها إلى الفن عبر التاريخ.بالعودة إلى تعريف الفن النسوي، نجد أنه فن صنعته النساء عن وعي بمواءمة ممارستهن الفنية مع سياسات حركة حقوق المرأة والنظريات النسوية التي ظهرت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.

قبل ذلك التاريخ، كان يتم تقديم النساء من الناحيتين الفنية والاجتماعية على أنهن أشياء تخضع للرقابة الذكورية، حيث يتم تمثيلهن باستمرار بطرق يقصد بها الرجال. غالبًا ما يشير هذا المفهوم إلى النظرة الجنسية، حيث لا تمثل النساء كأشياء فحسب، بل ككائنات للرغبة الجنسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للرجال دائمًا التعليق بحرية على أجساد النساء في الواقع، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، أي أن النساء يمثلن أجسادًا متاحة باستمرار لملاحظة الرجال وإصدار الأحكام.

بالرغم من كون النساء جزءًا لا يتجزأ من مؤسسة الفن، إلا أن تاريخ الفن التقليدي قد استبعد، أو أخفى، بشكل ممنهج، مشاركة المرأة في الفنون البصرية. بدلًا من الاعتراف بالحواجز الاجتماعية التي تواجه النساء عند محاولتهن الانخراط في عالم الفن، اعتبر النظام عمومًا أن مساهمات النساء غير موجودة، أو أدنى من محاولات الرجال.

“بالرغم من كون النساء جزءًا لا يتجزأ من مؤسسة الفن، إلا أن تاريخ الفن التقليدي قد استبعد، أو أخفى، بشكل ممنهج، مشاركة المرأة في الفنون البصرية”

كخطاب جندري، ساهم تاريخ الفن أيضًا في الانقسامات الجنسية المبنية لترسيخ المجتمع الأبوي الذكوري، واحتفى غالبية مؤرخي الفن بالإبداع الفردي الرجولي، واعتبروه ذروة العظمة الفنية. واستدعى الأمر تدخل النسوية في أواخر القرن العشرين لإعادة صياغة النظام القديم الراسخ.

ساعدت الأفكار النسوية على إبعاد الأفكار المثالية عن المنتج الإبداعي، وعلى تحدي المواقف التاريخية المعيارية للفن، والاعتراف بدور الجنس والطبقة والعرق في الفن والمجتمع، كما ساعد النقد النسوي أيضًا في تصحيح الإهمال شبه الكامل للفنانات، وإعادة تعريف النساء بشكل مختلف وفقًا للثقافة والهوية والدين والزمن. ومع الاعتراف بهذه الاختلافات، وتفكيك مصطلح النساء، وإعادة تعريفه، ليس كفئة موحدة، ساهم هذا بخلق أنماط مختلفة من الفنون البصرية النسوية.

لوحة فنية لجودي شيكاغو

الذكورة والأنوثة

لنتمكن من فهم التوتر المجتمعي الذي تسببت فيه النسوية، نحن في حاجة إلى التفكير في سياق الثقافة الأميركية، قبل أن تكتسب الحركة النسائية الزخم الخاص بها. كانت الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تحوي بعض الأفكار الصارمة حول السلوك المناسب والمقبول لكل جنس منذ العصر الفيكتوري. سمحت ثقافة ظهور التلفزيون والإعلام الجماهيري بتكسير تلك المثل والأفكار، ونشر أفكار جديدة على نطاق واسع، بغض النظر عن إمكانية تحقيقها بالتجربة الفعلية.

على سبيل المثال، كانت الفكرة السائدة في ذلك الوقت هي أن جميع النساء يجب أن يكن ربات بيوت سعيدات، على الرغم من حقيقة أن النساء قد أثبتن قدرتهن على العمل في مجالات مختلفة خلال الحرب العالمية الثانية، وبالرغم من أن النساء الفقيرات، وذوات البشرة الملونة، لم يكنّ ضمن الخيال المعتاد عن الأنوثة.في الوقت الذي كانت فيه توقعات الناس وخبراتهم تخضع لرقابة شديدة وفقًا للجنس، بدأ مؤرخو الفن في نشر مقالات عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي حالت دون حصول الموهوبات على المكانة نفسها التي يتمتع بها نظراؤهن من الرجال. بعد ذلك دأبوا على فحص تاريخ الفن، وتساءلوا عن المكانة المركزية للأنثى العارية في الفن الغربي، متسائلين لماذا يتم تمثيل الرجال والنساء بشكل مختلف. وفي كتابه “طرق الرؤية”، خلص الناقد والمؤرخ الفني، جون بيرغر، إلى أن “الرجال ينظرون إلى النساء”، والنساء يشاهدن أنفسهن وهن في موضع النظر، أي أن الفن الغربي يكرر العلاقات غير المتكافئة المتأصلة بالفعل في المجتمع.

“تضمنت الإنجازات المبكرة إنشاء برنامج الفن النسوي من قبل جودي شيكاغو في كاليفورنيا عام 1970، ثم بالتعاون مع ميريام شابيرو عام 1971”

الفنانة جودي شيكاغو

بدأت النساء في العمل معًا للاحتجاج على الطرق التي شوهت بها الأنظمة السياسية حياة المرأة وتطلعاتها وأحلامها، وبدأت النسويات في محاولة خلق عوالم أكثر شمولًا لحياة النساء. تطلبت التحولات التي رغبت فيها النسوية خيالًا وتصميمًا وإرادة، فوجدت الفنانات النسويات في تلك الطرق مبررًا وإلهامًا لممارسة فنية جديدة. وفي حين أن الحركات المدنية والحركات المناهضة للحرب في الولايات المتحدة والحركة الطلابية في أوروبا كانوا يميلون إلى استخدام الفن كوسيلة للإعلان عن أهدافهم السياسية بدلًا من كونه طريقة للتعبير العميق واستكشاف تلك القناعات والأهداف، فبالنسبة للنسويات أصبح الفن ساحة للتحقق من الأفكار السياسية والشخصية.

بدأ الأمر بالاحتجاج على عدم إدراج الفنانات في صالات العرض والمتاحف، إلى إحياء الأنواع الفنية الزخرفية والحرفية. كانت المرحلة الأولى من صناعة الفن النسوي ناشطة وعاطفية ومهتمة بتغيير الأفكار الراسخة في تاريخ الفن.تضمنت الإنجازات المبكرة إنشاء برنامج الفن النسوي من قبل جودي شيكاغو في كاليفورنيا عام 1970، ثم بالتعاون مع ميريام شابيرو عام 1971. وخصصت تلك البرامج الفنية النسوية لإنتاج فن من النساء وعنهن، لتعرض الأعمال الفنية بعد ذلك في معرض كبير بعنوان “womanhouse” عام 1972.

“تشير الأنثى العارية إلى الفن من خلال الصورة المؤطرة النمطية لجسد الأنثى التي نجدها معلقة على جدران أي معرض، أو متحف غربي”

كانت مساحة العرض عبارة عن مساحة محلية، وتجاهلت الفنانات الافتراضات التقليدية حول اختيار موضوع فني مناسب. احتفت الفنانات النسويات بما كان يعتبر تافهًا وغير فني، مثل: مستحضرات التجميل، والسدادات القطنية، والبياضات والملاءات، والملابس الداخلية. تحولت كل تلك العناصر إلى مادة للفن الرفيع. غطت وسائل الإعلام الرئيسية المعرض بشكل كبير، وأوضحت الأحداث أن هناك جمهورًا واسعًا ومتحمساً للفن النسوي.وفي حين أن كثيرًا من الفن الذي ظهر من الحركة النسوية في الولايات المتحدة في أواخر الستينيات، وأوائل السبعينيات، كان يميل إلى التركيز على أجساد النساء والاستفادة منها، فإن الفن الذي تلا ذلك، والذي ظهر غالبًا في بريطانيا، كان يميل إلى أن يكون متجذرًا في نظريات التحليل النفسي، الأمر الذي جعل من النسوية نقطة انطلاق لموضوعات بعيدة المدى.

المرأة من عصر النهضة إلى الفن النسوي

كانت أغلب تمثيلات المرأة في الفن الغربي من عصر النهضة (1400 ـ 1600) حتى القرن الثامن عشر (عصر التنوير) مقيدة لها بصورة نمطية. تضمنت النهضة الإيطالية ولادة جديدة للثقافة والأدب في أوروبا الغربية. جمع ذلك العصر بين المثل القديمة والكلاسيكية مع قيم القرون الوسطى. استمر تصوير النساء في لوحات النهضة في صور نمطية، إما عفيفات، أو مخادعات، أو تمثيلهن بصورة أيقونية، متمثلة في مريم العذراء، أو حواء.

عند مراجعة تاريخ الفن الغربي، نجد انتشارًا كبيرًا لصور الجسد الأنثوي أكثر من أي موضوع آخر. تشير الأنثى العارية إلى الفن من خلال الصورة المؤطرة النمطية لجسد الأنثى التي نجدها معلقة على جدران أي معرض، أو متحف غربي. تعد تلك الصورة أيقونة الثقافة الغربية، ورمزًا للحضارة والإنجاز. لقرون كانت تلك الصورة المثالية هي الصورة الوحيدة المقبولة لشكل الأنثى في الثقافة والفن الغربي، بما يتناسب مع رغبات الرجال وأفكارهم عن المرأة المثالية.

لم تتغير الصورة النمطية للمرأة في الفن إلا مع ظهور الأفكار النسوية الثورية، حيث خلص النسويون بشكل عام إلى أنه بالرغم من أن اللغة النظرية للفلسفة تبدو محايدة وآملة، إلا أن جميع المجالات تقريبًا تحمل علامة الجندر في مفاهيمها الأساسية. وأولئك الذين يفككون علم الجمال يستفسرون عن الطرق التي يؤثر بها الجنس في تشكيل الأفكار حول الفن والفنانين والقيم الجمالية. قدمت المساهمات في وجهات النظر الجمالية النسوية ليس فقط من قبل الفلاسفة، ولكن من قبل مؤرخي الفن ومحللي الموسيقى ومنظري الأدب والسينما، وصولًا إلى الفنانين أنفسهم الذين اختاروا كسر صورة المرأة المثالية في الفن، وتضمين كل أنماط النساء وفنونهن بالطريقة التي يرغبن بها، وتعبر عنهن بعيدًا عن الصورة التي يفضلها الرجل ويرسخها المجتمع.سعت الفنانات النسويات في الموجة الثالثة إلى التشكيك في الأفكار ووسائل الإعلام التي نقلت أفكارًا حول الأنوثة والجنس والجمال والذكورة، كما سعين إلى إعادة تعريف تلك المصطلحات. كان هناك تحول واضح في مفاهيم النوع الاجتماعي، مع فكرة أن هناك بعض الخصائص الذكورية بشكل واضح، وأخرى أنثوية بشكل واضح، والتي تفسح المجال لمفهوم التواصل بين الجنسين. بالإضافة إلى أن الموجة الثالثة كانت أكثر شمولًا للنساء والفتيات ذوات البشرة الملونة.

“كان هناك تحول واضح في مفاهيم النوع الاجتماعي، مع فكرة أن هناك بعض الخصائص الذكورية بشكل واضح، وأخرى أنثوية بشكل واضح”

في النهاية، نستكشف أن الفن النسوي ليس أسلوبًا، ولا حركة فنية، لكنه نظام قيم وأسلوب حياة. وكما تقول الناقدة النسوية، غريسيلدا بولوك، فإن “النسوية مشروع تاريخي، وبالتالي هو في حد ذاته يتعلق بنضال النساء”، ومع تطور معنى النسوية في القرن الواحد والعشرين، نجد أن الفن النسوي يشمل العديد من القضايا ووجهات النظر المعقدة، وبالتالي لا يمكن اختزاله في موضوع، أو أسلوب معين، أو اتجاه واحد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »