العدد العشرين .. عدد خاص بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء شهر نوفمبر تشرين الثاني عام ٢٠٢٣…صُنِعَ في أدب الحروب…! النسويّة وثقافة التجنيس
يبدو أنّ الأدب النسوي بدأ يتخطّى كلّ التوقعات في سعيه الحثيث نحو الأدبيّة العالميّة لكي يترك لنفسه فيها بصمة أُخرى تحذفه من قائمة النسيان وتعيده متصدراً للفكر الإنساني؛ إذ حصدت الثقافة النسوية عُشرية نوبل للآداب في هذا العام؛ فكانت من نصيب الصحفية البيلاروسية سفيتلافيا ألكسييفتش.جائزة نوبل للآداب للعام 2015م كانت بنكهة أُخرى فقد أطاحت بالتعريفات السابقة للأدب كليّاً فلم تكن سفيتلافيا روائية بالمعنى المتعارف عليه أدبيّاً بل إنَّ كتاباتها كانت من نوع آخر، إنها صحفية استقصائية تكتب مقالاتها نقلاً لما تراه وتسمعه حقيقةً لتُحيله أدبا موثقاً باللحظة والزمان.
لقد أُعلن اليوم عن ولادة جنسٍ أدبيّ آخر زرعت بذرته سفيتلافيا وقد يحصد الآخرين ثماره، إنه أدب الحقيقة عينُها، الصحفية حاولت وبكلّ ما أُتيت من ثقافة أدبيّة أن تفْصِل الفنّ عن الواقع؛ فالتصق الفنّ بواقعها ثمّ تجلى جنساً أدبيا آخر ربما غفل عنه كثيرٌ ممن سبقوا، ولربما كان هذا الجنس الأدبيُّ أكثرُ التصاقاً بواقع الحروب و آلامها وأحزانها، بل هو صنيع بيئتها، ولعلّها محاولةٌ أُخرى أثمرت عن إبداع جديد يحاول الجمعَ بين الفنّ والتوثيق ويعلن انتهاءه في خانة الأدب الإنساني والتي كلما تجددت ضروراتها أتاحت لظهور جنس أدبيّ جديد يواكب الزمان والمكان ويُكسّر البنيات ويتيح المحظورات فيما سبقه من أجناس.
الكتابات التي وصفها تقرير الأكاديمية السويدية بأنها متعددة الأصوات وبأنها تمثّل معلما للشجاعة والمعاناة في زماننا استطاعت أن تؤسس منهجاً أدبيّاً رصيناً خاض غمار الحروب مع من عاشها وما لبثت أنْ سطّرته الكاتبة روايات توشحت بوشاح الأدبية والإنسانية لتلعنَ دُعاة الحروب ومؤسسيها، وعلى منهجها ظلت الصحفيّة تخطّ كتبها لسنوات طوال بأسلوب الأدبية التوثيقيّة موائمة بذلك بين السرد والحقيقة.لقد نشرت الكاتبة أعمالها لسنوات عدة فوجدت أصداءها لدى القرّاء الروس وغيرُهم، وتُرجمت العديد من كتبها كـ ((أصوات تشرنوبل تأريخ للمستقبل)) و ((نعوش الزنك)) و ((وجه غير أنثوي للحرب)) إلى لغات أخرى تجاوزت العشرين لغة باستثناء اللغة العربية طبعاً كما يرى الشاعر والكاتب التونسي سامي نصر في مقاله المنشور في صحيفة عُكاض، كما عرض لنا الكاتب نصين مترجمين إلى العربية من كتابها ((أصوات من تشرنوبل)) ترجمتهما اقتباساً الكاتبة والأديبة السوريّة أماني لازار، وقد عبرت فيهما سفيتلافيا عن حياة إنسانيّة غائرة في قعر المعاناة والأسى وويلات الحروب وآلامها، ويبدو أن الأجناس الأدبيّة المتعارف عليها لم تسعف الكاتبة فيما تبتغيه منها؛ إذ تقول: ((كنت أبحث عن جنس أدبيّ يسمح لي بمقاربة رؤيتي للحياة بأفضل ما يمكن، تالياً اخترت أن أكتب أصوات الناس واعترافاتهم))، الروائيّة البيلاروسيّة إن صح نسبتها إلى جنس الروائيين كانت تكتب باللغة الروسيّة وضدّها في آن واحد؛ لأنها كانت في انتقاد ملتزم لدعاة الحروب ومروجيها، وما لبثت أنْ ملأت صورها ومقالاتها بل وحتى أفكارها أرجاء الثقافات العالميّة، بينما الثقافة العربية لم تحتضن لها ولو نصاً واحد على سبيل الاستشهاد أو الترجمة، فازت بالعديد من الجوائز الأوربية قبل أن يؤهلها ذلك للفوز بنوبل للآداب، جمعت الروائية بين الواقعيّة الصادمة وإنسانية الخطاب الأدبي؛ لتؤسس لنا لمسة أُخرى في الفن الروائي العالمي، ولكي تكون كتاباتها شهادات أدبيّة في عصر الواقعية تتخطى مسألة الصدق الفني وتجلياته السرديّة.
لقد بقيت النظرة الاستقصائية التي سردت بها الروائيّة الحروب مجهولة بالنسبة لواقعنا العربي النقدي، وسينتظر النقّاد العرب ما تدرُّ به منها عليهم شواطئ الترجمات، تلك الحوارات المكتوبة التي استعملتها الكاتبة في صورة فقرات سردية وجيزة دون أيِّ تعليق أو حكم منها، وعلى الرغم من أهمية الحدث النقدي بوصفه مجددا لأجناس أخرى إلا أنه لم يجد اهتماما نقدياً عربيا خلا تلك المقالات التي نُشرت في عدد قليل جداً من الصحف الأدبية والمواقع الإلكترونية المهتمة بماهية الخبر ولمَنْ ستكون الجائزة..! أما طبيعة الجنس الأدبي الذي ساق أنظار العالم لكاتبه فذاك رجع بعيد.