العدد الثاني و العشرين ..النصف الثاني من شهر ديسمبر كانون الاول من عام ٢٠٢٣…الإبداع الأدبي للمرأة

لدى كل امرأة تلك اللحظة الإبداعية، وذلك الميل نحو الإبداع، ولكن البعض منهن وبالتحديد اللواتي يتعرضن للتهميش والإقصاء، لا يتلمسنها ولا يبحثن عنها، ربما جزعا، وربما خجلا، وربما يسيطر عليهن ظرف اللاجدوى الزماني داخل الواقع الذكوري، الذي جعلهن يرفعن الراية البيضاء في خنوع لأمد طويل، وقمع العديد من مواهبهن خاصة الفكرية منها. ومما لا شك فيه تاريخيا أن حضور المرأة في الثقافة العربية هو حضور ضعيف جدا، باعتباره تاريخ ثقافي ذكوري بالأساس، بالرغم من أنه لا يعدم وجوها نسائية في الشعر بالخصوص مثل “الخنساء” و”رابعة العدوية” في المشرق و “ولادة” و “ليلى الأخيلية” في الأندلس، ولكننها لا نجد في المقابل أسماء أنثوية لها على الأقل نفس حضور الرجل تاريخيا في المجالات الثقافية والمعرفية الأخرى، نظرا لاستبعادها من الفضاء العام الخارجي الذي يهيمن عليه الرجل ويحصرها بالفضاء الداخلي، كامرأة مرتبطة بصورة الحريم كما صورها الخيال الاستشراقي ولوحات فنانيهم على غرار اللوحة الشهيرة للفنان المستشرق الفرنسي “أوجيني دي لاكروا” (نساء مدينة الجزائر في بيوتهن 1834)، تلك المرأة التي تمضي حياتها مستلقية على الأريكة مرصعة بالذهب والحجارة الكريمة، تدخن وتسند ذراعيها المكتنزتين على الوسادة الرخوة.

وحتى سبعينات القرن الماضي عندما برزت أقلام نساء عربيات متميزة في مجالات الشعر والقصة والرواية، اتخذ النقاش حول هذه الظاهرة الإبداعية المكبوتة منحى لا يخلو من مغالطات ونزوع إلى الاختزالية وتذويب الظاهرة في أنهار خطاب ذكوري يحول بين المرأة وبين تحقيق النديّة والتكافؤ الإبداعي مع الرجل. ويذكر الباحث الفرنسي “جان ديجو” في كتابه (الأدب النسائي المكتوب باللغة الفرنسية في البلدان المغاربية) أن استعمال “الأنا” مع ظهور عمل أدبي ذو مصدر نسائي بدا تعرية غير مقبولة بالنسبة إلى حراس العقيدة الإسلامية الدين يعتبرون أن الكشف عن “الأنا النسائي” يرتبط ب “الغواية” و يوضح ذلك “مصطفى الغرافي” قائلا: (لا تتكلم المرأة غالبا باعتبارها فاعلا لغويا مستقلا، بل ظلّ الرجل هو المتكلّم باسمها والمعبّر عن حقيقتها وكينونتها).

فالمجتمع للأسف عادة ما يكون في حرب مع الفكر غير المألوف، فارضا قيود أنماطه السائدة على حرية الإبداع وتتضاعف هذه القيود بالطبع حول المرأة خصوصا، مما يجعلها تشعر بأن عليها الاختيار بين التصادم مع المجتمع أو الاستسلام التام لرغبته، بأن تبرمج نفسها على العيش في جحيم الآخرين، أو خيار ثالث يشبه أن تطل من قبر على عالم الأحياء وهو ممارسة الإبداع خلف اسم مستعار، أو التعامل مع جهات ترعى الإبداع خارج الوطن، أو غيرها من صور الانفصال عن البيئة المثبطة، وذلك لتنجو بنفسها من التصادم المروع مع المجتمع ومع قارئ انتقائي يحاول ترصد وصف الكاتبة أو الشاعرة للعلاقات الحميمية بين الرجل والمرأة وتكسيرها للقيم كي يطالبها عند نهاية القراءة بتخليق الكتابة ويضعها تحت المساءلة والقيود الأخلاقية، وهي مرتبطة بكينونة الكاتبة كأنثى والتي يعمل المجتمع على تعزيزها بشكل آلي وفق وصف “جورج طرابيشي” في (أنثى ضد الأنوثة): وهذه الأنثى لا تأتي إلى اللغة إلا بعد أن يسيطر الرجل على كل الإمكانات اللغوية.

لقد أخدت المرأة مسؤولية التعبير عن ذاتها تعبيرا أدبيا يستنطق مشاعر وتجارب مغايرة لما يكتبه الرجل تستطيع من خلاله أن تبلور خصائص وسمات تضئ مناطق وفضاءات ظلّت معيّبة طوال الفترة

ورغم كل هذا إلا أن صوت “الأنا” العميق للمرأة كمبدعة جريئة بدأت ممهداته تتنامى في أحشاء المجتمعات العربية منذ نهاية الأربعينات وصولا إلى “مي زيادة” كأوّل كاتبة دفعت ضريبة الدفاع عن حق الاختلاف بحيث لفظها المجتمع الذكوري لتنزوي عن الحياة وهي تشارف الجنون، ولا ننسى كتابات “ليلى بعلبكي” ومحاكمتها بعد إصدار مجموعتها القصصية (سفينة حنان إلى القمر سنة 1964) وإعادة قراءة روايتها (أنا أحيا) الصادرة سنة 1958 التي تضع موضع تساؤل مفهوم الرجل للمرأة، أيضا الكاتبة “كوليت خوري” بروايتها (أيام معه) سنة 1959 ورواية (ليلة واحدة)سنة 1961. وقد قامت هذه الروايات بتفتيت القيمة التي تكرس ثقافة الدونية وعملت على إلغاء الصورة النمطية للنساء وطرحت سبل تجاوزها.

ولقد سجل تاريخنا الثقافي العربي حديثا صفحات مضيئة لإبداع المرأة من المحيط إلى الخليج في المقدمة منه إبداعات الشاعرة العراقية “نازك الملائكة” رائدة الشعر الحديث، كشف عن ذلك كتابها (قضايا الشعر المعاصر) بأنها أوّل من نظم قصيدة الشعر الحر وتجلى ذلك في قصيدتها الأشهر (الكوليرا) التي تنبئ عن ثقافة عميقة الجدور بالتراث والوطن والإنسان. وفي مصر يسجل التاريخ المعاصر إبداع الأديبة “رضوى عاشور” خاصة في ميدان الرواية التاريخية. وفي الأردن حققت المرأة المبدعة إنجازات أدبية يشار إليها بالبنان كما في تجارب الشاعرات المتميزات “أمينة العدوان، رفعة يونس، سلوى سعيد”.

وفي الرواية حلقت أسماء كل من ليلى الأطرش وسحر خليفة وغيرهن الكثير. ولقد تطور الأمر مع الجيل الحالي من الكاتبات فبدأن في نقد الأوضاع السائدة المحيطة بالمرأة وهو ما ظهر جليا في روايات الكويتية “بثينة العيسى”، والفلسطينية عدنية شبلي، والجزائرية “آسيا جبار”. وليس أدل على ذلك من الطفرة التي حدثت بالسعودية وأنتجت أسماء عدة مثل: رجاء الصانع، قماشة العليان وبدرية البشر، صبا الحرز وغيرهن ممن قمن بكتابة أعمال تهدم سطوة تقاليد لا تسمح للنساء بممارسة الكتابة بوصفها شأنا عاما.. واللائحة طويلة على امتداد الرقعة العربية.

لقد أخدت المرأة مسؤولية التعبير عن ذاتها تعبيرا أدبيا يستنطق مشاعر وتجارب مغايرة لما يكتبه الرجل تستطيع من خلاله أن تبلور خصائص وسمات تضئ مناطق وفضاءات ظلّت معيّبة طوال الفترة التي استفرد فيها الرجل بكتابة النصوص الإبداعية، ولقد برهنت على أنها خير من ينتج أدبا وذلك من منظور معاناتها الإنسانية التي تحتدم من خلال مشاعر وجدانية توحدت أدبيا، حسيا، وفكريا، في قلب يشتعل كما الفتيلة التي لا تنطفئ. إن التحدي الذي تخوضه المرأة في العصر الحديث في حقيقة الأمر يندرج تحت مفهوم احترامها لنفسها من خلال سعة فكرها وتحريرها لأدبيتها باتجاه أفق مغاير يستنطق ويستوحي ويشكل عوالم طالما لفّها الصمت وحجبها النسيان، وعسى أن تبلغ المرأة قدرها ومكانتها التي فطرها سبحانه وتعالى عليها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »