العدد الخامس و العشرين ..شهر شباط فبراير من عام ٢٠٢٤..تجليّات واقع الرواية النسائية السورية
بعد أكثر من عشر سنوات على بدء الثورة السورية يمكننا أن نتحدَّث عن الحالة الثقافية التي أنتجتها تلك الثورة، إذ يرتبط النتاج الثقافي في أيِّ حيِّز مكاني بالمجتمع الذي ينشأ فيه، لأنَّه يعدُّ المرجعية الأولى لذلك النتاج الإبداعي، وإن تراوحت شدَّة هذا التأثير من مبدع إلى آخر، وخاصة في المجال الروائيِّ، وذلك لأنَّ الرواية من أكثر الأجناس الأدبية تعبيراً عن واقع المجتمعات التي ينتمي إليها الكتَّاب، وقد برز عددٌ لا يمكن الاستهانة به من الأسماء الروائية بعد آذار 2011، وحظيت المرأة بحصَّةٍ كبيرة من تلك الأسماء.
في بداية الحديث عن الكتابة النسائية لا بدَّ أن نتحدث عن الموضوعات المحورية التي سيطرت على كتابات الروائيات السوريات، إذ تبرز في المقدمة موضوعات الثورة والربيع العربي، والسجون وما رافقها من قتل وظلم، والتغيرات التي طرأت على أدوار المرأة الاجتماعية، بالإضافة إلى موضوعات الاغتراب والحنين إلى الوطن، وقضايا الاندماج مع المجتمعات الجديدة، كما كانت للموضوعات التي تتمرد فيها المرأة على النظام الأبوي الصارم الذي كان يسيطر على البنية الذهنية في المجتمع السوري حضور بارز في تلك الكتابات، يقول الناقد المغربي عزيز العرباوي:
“إنَّ الرواية النسوية العربية تزخر بالعديد من التيمات والموضوعات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تمثل صورة المرأة العربية… إنَّنا نفهم، ومن خلال الرواية النسوية بالذات، تلك الأحاسيس الغامضة التي يصعب على الرجل المبدع، والروائي بالخصوص، ترجمتها عبر إبداعاته، لأنَّه لا يمكنه أن يدرك تلك المشاعر الدفينة والأحاسيس الداخلية للمرأة… وفي النهاية، يمكننا أن نكوِّن رأياً واضحاً عن المرأة وفكرها ومواقفها من خلال ما نقرؤه من إبداعات روائية بالخصوص”
وهذا ما يفسِّر الحضور البارز للروائيات السوريات بعد قيام الثورة السورية، وعلى الرغم من عدم وجود اتحاد خاص بالكتَّاب بشكل رسمي، أو لنقل عدم نجاح تلك التشكيلات الثقافية، فإنَّنا لم نعدم حركة الانتقال الواضحة التي شهدتها الكتابة النسائية في سوريا من ناحية ظهور عدد لا بأس به من الكاتبات اللواتي كتبن بنَفَس الحرية بعيداً عن الرقابة السياسية التي أنهكت لسنوات طويلة النتاج الثقافي في سوريا بالإضافة إلى تصدُّر أسماء كاتبات سوريات معروفات ضمن المشهد الثقافي واللواتي برزن من خلال الأقانيم الجديدة التي باتت تشكِّل مسارات الكتابات النسائية خلال العقد الأخير من الزمن.
من المهم أن نفصل بين الكتابة النسائية وبين القضايا النسوية في حديثنا عن مستقبل الكتابة النسائية، ويمكننا تحديد رؤية مستقبلية للرواية النسائية
وعن هذا الموضوع، تقول الكاتبة شادية الأتاسي:
“حققت الرواية السورية منجزاً كبيراً، وشهدت في العقد الأخير انفجاراً في الإنتاج. اللافت للنظر أنّ القلم النسائي برز بجلاء، ويمكن ملاحظة هذا في جائزة البوكر العربية لهذا العام، أغلبية الروايات الفائزة كتبتها نساء. اثنتان من سوريا. وهذا ليس مؤشراً وحيداً، أغلب الروايات الصادرة في العشرية الأخيرة، كتبتها نساء، إذ كان لابدَّ من الخروج من القوقعة الذاتية، وكسر التابوهات المحرمة إلى فضاء أكثر شمولية وإنسانية”
هذا ما يمكن أن نطلق عليه كسر جدار التوقُّع. فقد استطاعت المرأة أن تبني من الواقع القائم على التشتت والقهر والاغتراب والحنين واقعاً مغايراً ومختلفاً من خلال رؤيتها المستقبلية التي تنعتق فيها من الظلم، وتنال حريتها في كلِّ المجالات وخاصة في مجال التعبير، وتعطي المرأة مكانتها اللائقة التي تستحقها، وهذا بحدِّ ذاته يعدُّ رؤية للعالم تقاسمتها المرأة الكاتبة مع الرجل الكاتب، إذ لا يمكننا في مجال الإبداع أن نتحدث عن نهوض وتطوُّر ثقافي إلا من خلال العملية الإبداعية ككل، تظهر فيها المرأة كما يظهر الرجل.
وتتحدَّث الكاتبة يارا وهبي، التي ترفض فصل الكتابة الروائية النسائية عن غيرها من الأعمال الروائية، قائلة:
“كانت الكتابة هي مهنة الكاتبات في سوريا قبل الثورة وبعدها، إذ أكملن تجربتهنَّ بعد أن حصلت بعضهنَّ على مصادر تمويل جديدة، أو وجدن مؤسسات ثقافية تدعمهنَّ لاستكمال مشاريعهنَّ الحقيقية، لأنَّه من المهم أن ينجح السوري ليصبح نموذجاً للأوروبيين الذين يتعاطون الفن، وبذلك تكون الكتابة دليلاً على قدرة السوريين على الاندماج مع المجتمعات الأخرى”
وهي بذلك تقدِّم رؤية متطورة ومتجاوزة لما هو تقليدي من خلال إعطاء الكتَّاب دوراً مهماً يستطيعون من خلاله أن يظهروا ذواتهم أمام الآخر المختلف عنهم، وأن يثبتوا قدرتهم وحضورهم عبر نتاجهم الذي يعبر عن حضارتهم وثقافتهم التي يعتزُّون بها، وبذلك سيكون لدى الآخر الذي طالما كوَّن في مخيلته صورة ناقصة عن المثقف السوري صورة مغايرة تعبِّر عن مدى قدرته على الخروج من إطار الشخصانية لما هو عالمي وإنساني، وهذا ما يفعله كثير من المثقفين في أوروبا من خلال الأمسيات الشعرية والروائية والحفلات الموسيقية والفنية، والمعارض التشكيلية، والمؤتمرات التي تجمع المثقفين من كل الاختصاصات.
وتتناول الروائية السورية روزا ياسين حسن واقع الكتابة النسائية بعد الثورة السورية فتقول:
“ينبغي علينا التفكير قليلاً في هذا الأمر، فبعد الثورة السورية خرجت كثير من الكتابات التي هي ضد السلطة السياسية… وفي رأيي حتى اليوم ما زال المشهد الإبداعي السوري طور التشكُّل، خاصة بعد الهزة الكبرى التي عاشتها سوريا في الثورة والحرب التي ما زالت إلى اليوم، والإنسان لا يستيقظ منها بسرعة، نحن بحاجة إلى وقت لتتحدد ملامح هذه المرحلة، لأنَّ الأدب السوري حتى اليوم ما زال تحت الصدمة، فالأدب المحمَّل بالحرارة والانفعالات ليس سيئاً وله جانبه الجمالي، ولكن الأدب المكتوب بعد تبحُّرٍ وهدوءٍ وفترة كمونٍ يُخرج أدباً أكثر نضجاً”
وبناء على ذلك يمكننا أن نرى أنَّ ما حققته الكاتبات الروائيات في هذه المرحلة، مرحلة التحولات الكبرى، كان تعبيراً عن مدى قدرتهنَّ على قراءة الواقع قراءة تعبِّر عن وعيهنَّ وأهمية دورهنَّ في تشكيل الحالة الثقافية، ولا بدَّ أنَّ تلك التغيرات التي طرأت على الكتابة النسائية ستوجِّهها باتجاه مرحلة جديدة لا مجال للرجوع إلى الوراء فيها.
وأخيراً يمكننا القول إنَّه من المهم أن نفصل بين الكتابة النسائية وبين القضايا النسوية في حديثنا عن مستقبل الكتابة النسائية، ويمكننا تحديد رؤية مستقبلية للرواية النسائية، وإن كانت الرواية المتعلقة بهذه المرحلة في طور التشكُّل، إذ يمكن الاستبشار بمستقبل الرواية النسائية وذلك بسبب بروز أسماء بعض الكاتبات السوريات في قوائم الروايات التي حصلت على جوائز عربية وعالمية، فالكتابة النسائية السورية باتت تحمل مسؤولية عكس ثقافة مجتمعنا السوري في هذه الكتابات ونقلها للعالم.