العدد السابع …نيسان ٢٠٢٣..في المجتمع الذكوري …المرأة بين سيء وأسوأ !
استذكر ورشة عمل حول الجنسانية يسرتها قبل أكثر من عشرين عاما مع مجموعه من الشابات في إحدى البلدات الفلسطينية. كانت الورشة ضمن برنامج توعوي يقدمه مكتب الخدمات الاجتماعية تحت عنوان “تمكين الشابات العزباوات” وكانت جميع المشاركات من بيئات مهمشة اجتماعياً واقتصادياً كلهن تخطين عمر الثلاثين ولم تتزوجن بعد. اضطرت أغلبية الشابات إلى الانتقال للعيش مع أسرة أحد الأخوة الذكور أو الأعمام أو الأخوال بعد وفاة الأم والأب بسبب عدم تقبّل المجتمع المحلي لفكرة عيش الشابة “العزباء” لوحدها في منزل أهلها المتوفين.
بعد التعارف وكمقدمة للقاء، توجهت إلى الشابات بسؤال بسيط وعام:
“ما هو الشيء الذي تشعرن بأنكن محرومات منه، فقط لأنكن غير متزوجات؟”
توقّعت أن تتمحور الإجابات حول مشاعر الوحدة أو الحاجة الى الدفء أو الحب والحميمية أو حتى الحاجة الى تلبية الرغبات الجنسية أو الأمومة وغيرها، إلا أن توقعاتي كانت بعيدة جداً عما كان يدور بأذهان أولئك الشابات. بعد أن ساد الصمت في غرفة التدريب لوهلة، بادرت إحدى الشابات للإجابة قائلة: “ينقصني مفتاح للبيت”.
“مفتاح للبيت؟” هل لك أن تفسري أكثر؟ سألتها باندهاش.
أجابت: “نعم، أريد مفتاحاً لبيتي، لأفتح بابه وأغلقه متى أشاء، أتحكم بما يدور بداخله، اشتري ما أريد وأتناول من الطعام والحلويات ما أريده أنا وبتوقيتي أنا وحدي”.
سألتها “ماذا عن الحب والشريك”؟
أجابت: “أصبحت في منتصف الثلاثينات من عمري، لست جميلة ولا متعلمة ولذلك لا أتوقع أن أجد رجلاً يحبّني، ولكني سأرضى بأي رجل يتقدم بالزواج مني لأنه سيكون بمثابة “مفتاح البيت”، أما الحب فيمكن أن يأتي لاحقا”.
سألتها: “وماذا لو لم يأت الحب؟”
قالت: “العيش مستقلة ومتزوجة بلا حب أفضل من العيش محاصرة بعيون وأحكام الناس ومكبّلة بحب مشروط من الأسرة. أخشى أن أموت وحيدة”.
لم تبالغ هذه الشابة في وصفها للواقع الذي تعيشه الكثيرات من شاباتنا العربيات في معظم أرجاء الوطن العربي الكبير، حيث يتطلّب الواقع الاقتصادي الصعب عموماً مساهمة فعلية لتحمل العبء، فتضطر الفتاة إلى تحمل الأعباء المنزلية اليومية ومساعدة أمّها في كل المهام، وقد تضطر أحياناً أيضاً للتنازل عن دراستها من أجل الالتحاق بسوق العمل لكسب العيش، لكن هذه الاستقلالية النسبية لا تتيح لها التمتّع بحرية شخصية بل تبقى خاضعة طوال الوقت للمساءلة والمحاسبة وتحديد مساحات التحرّك خارج إطار العمل والمنزل. أضف إلى ذلك الازدواجية في المعايير التي يتم التعامل بها مع الإناث مقارنة بالذكور في الحقوق والواجبات، بالإضافة إلى الاستعارات والمفاهيم المتعلّقة بالجمال ووصمة “العنوسة” والتوقّعات غير الواقعية من العلاقات وأساليب الحوار والتواصل.
حتى الشابات الأفضل حظّا من حيث فرصة الالتحاق بالجامعة، فنجد الكثيرات منهن يراكمن اللقب الجامعي تلو الاخر فقط من أجل إطالة أمد البعد عن منزل الأسرة وقيوده وعن كل الأعين والألسن.
أفادت إحدى الشابات في ورشة أخرى: “طالما أنت طالبة جامعية، بإمكانك العيش مستقلّة في المدينة، ولكن فور انتهاء الدراسة، يصبح عليك العودة مرة أخرى إلى منزل العائلة. بعد حصولي على الشهادة الجامعية الأولى (البكالوريوس)، عدت إلى منزل أهلي بعد غياب أربع سنوات عشتها في سكن الطالبات. أربع سنوات كنت أخرج وأعود متى شئت، كنت مسؤولة عن حياتي ودراستي وعلاقاتي وإنجازاتي ولا أحد يساءلني ولا يخنقني. عندما عدت إلى منزل العائلة، صرت مُعرّضة للمساءلة والقيود مع كل تحرّك وكل تأخر وكل مكالمة هاتفية ترد إلىّ، وحتى حاسوبي الخاص خضع لل “فحص” أكثر من مرّة. كان أمامي حلان: إما أن اقبل بالزواج من أحد ’الخُطاب‘ الذين طرقوا بابنا، وإما أن أكمل دراستي للخروج من المنزل والتمتع ببعض الاستقلالية والحرية من جديد. فاخترت التعليم بدل الزواج، ولا أدري إلى متى سأصمد في تأجيل المواجهة”.
أما صبيّة ثالثة فقد أفادت: “عائلتي دافئة عموماً وداعمة، إلا إنها عائلة تقليدية لم تمنحني فرصة للتحرّر والتعلّم عن ذاتي وعن احتياجاتي، ولم تعلّمني كيف أتصدى لتدخّلات المجتمع المحيط وبالذات الأسرة الممتدّة. كنت أشعر بالاختناق والعجز، وكنت غير قادرة على تحديد هويّتي وميولي الجنسية. قرّرت الزواج لأنني أردت أن أكون أمّا، وكان ذلك مستحيل بدون إطار الزواج، كما انني كنت خائفة من تسارع ساعتي البيولوجية. كنت صغيرة وهشّة ولم أتمتع آنذاك بالقوة التي أنا عليها اليوم”.
خلال العشرين عام الماضية سمعت مئات القصص من النساء، قصص متنوعة ومتعددة، ولكنها متشابهة بجوهرها، ترسّخ مقولة “نار زوجي ولا جنّة أهلي”. لعب عنصر الأسرة وديناميكية العلاقة بداخلها دورا كبيرا في حيوات تلك النساء وقرارهن الارتباط بشريك، أي شريك، فقط من أجل التحرر من القهر والقيود، واخترن الزواج كملاذ من الضغط الاجتماعي والأسري.
استناداً إلى تلك القصص، يمكننا تلخيص العوامل التي لعبت دوراً مركزيّا في دفع النساء الى الزواج بأي كان كملاذ من قيود الأهل، كالتالي:
– الخوف: الخوف من الوحدة بعد فقدان الأهل في مجتمع لا يرحم المرأة العزباء. فالخوف يدفعها نحو الارتباط بأي شريك يقبله المجتمع بأسرع ما يمكن وقبل فوات الأوان، وإلا فستعيش الشابة وحيدة الى الأبد.
– التوقّعات غير الواقعية: حول كون الزواج مفتاح الخلاص من البؤس ومدخل الى التحرر من حصار الأهل. ولكن قد يكون الزواج أحيانا بمثابة الهروب من السجن الكبير إلى الزنزانه الصغيرة.
– التصوّر المتدني للذات: الذي يعزّزه إهمال الأسرة لمشاعر واحتياجات الإناث الصغار شعورهن بالنقص من حيث مستوى الثقافة، والإنجاز، والشكل الخارجي ،والجسد. وكل هذه عوامل تُسهم في خفض سقف المتطلبات من الشريك وتؤدي الى التشكيك بالقدرات الذاتيّة لدرجة يأس الشابة من امكانية ايجاد “رجل” يحبّها أو قد يجعلها تتساءل إن كانت اصلا “تستحقّ” الحب.
– الضغوطات من داخل الأسرة ومن المحيط: إن كلّ ما علّمونا إياه وقدموه لنا من نصائح ووصايا في كل ما يتعلق بالارتباط والزواج يبقى محفوراً في وعينا ويشكل منظومتنا القيمية والحياتية.. “كل ما عملتِ وأنجزتِ لا يكتمل الا بالزواج”… “الزواج سُترة للبنت”… “ظلّ رجل ولا ظل حيطة”… كلّها مفاهيم تقلل من قيمة المرأة بحد ذاتها لتحولها الى كيان ناقص، لا يكتمل إلا مع الزوج، بينما الرجل كامل بالأساس وفقط يُزيّن اكتماله بزواجه من امرأة أهم ما يميزها جمالها.
تُسهم هذه الضغوطات في دفع الشابّة الى التعامل مع الزواج كهدف ضروري وأساسي لا بدّ منه وبأقرب فرصة ممكنة. في ذات السياق، تختار بعض الشابات مثليات الجنس الزواج لإبعاد الشكوك بميولها الجنسيّة، أو بهدف الإنجاب والتمتّع بالأمومة، أو حتى في بعض الأحيان بسبب ارتباك الهوية والميول الجنسي وانعدام المساحات الآمنة للتخبط والتفريغ ضمن إطار مهني واجتماعي داعم. أما في أحسن الأحوال، يكون الزواج هو الحلّ الوحيد المتاح لحبيبين يسعيان للعيش معا في بيت واحد، بغض النظر عن قرار الإنجاب، مما يشكّل عاملا ضاغطا إضافيا عليهما.
– العلاقة المتوتّرة بين الأهل: إن الخبرات والمواقف التي تعرّضنا لها خلال طفولتنا لها أثر كبير علينا لأنها متراكمة في ذاكرتنا منذ أن كنّا صغاراً أبرياء لا نملك القدرة على التفكير النقدي تجاه تلك المواقف لنتحدّاها ونرفضها في حال تناقضت مع قناعاتنا. لو نشأنا داخل أسرة علاقاتها متوتّرة، فيها الأم والأب في حالة تناحر وشجار دائمين، يتعاملان مع بعضهما البعض بعنف وعصبية وغضب (عادة ما يكون العنف من طرف واحد!)، فإننا سنتعامل بالمثل في سلوكنا اليومي وفي كل حوارتنا الفكرية مع الأخرين. في بعض المجتمعات الغربيّة، يدفع هذا التشنّج والتوتّر المراهقات إلى الهروب من المنزل والاختفاء، بينما في مجتمعنا، قد يكون الملاذ الوحيد المتاح هو الزواج كمهرب من المنزل.
ما العمل؟ كيف يمكن تغيير الواقع؟
النضال من أجل المساهمة في إحداث التغيير أو التحوّل في القيم والمعايير المجتمعية المرتبطة بمفاهيم الزواج والارتباط العاطفي هو مسؤولية “مجتمعية-أسرية” و”مؤسساتية-رسمية” من جهة، وأيضا مسؤولية شخصية لكل امرأة وشابة من جهة أخرى.
على المستوى الرسمي والمجتمعي، لا بد من:
1- رفع مستوى الخطاب والاشتباك الفكري لخلخلة المفاهيم التقليدية التي تكرّس دونية المرأة وتعزّز تبعيتها المطلقة للرجل، بدءاً من سلطة الأب أو الأخ وانتهاءً بسلطة وحماية الزوج.
2- الاستثمار في برامج تربويّة ومجتمعيّة تعزّز هذا الخطاب وتسمح بنقاشه وتفكيكه بدءاً من مراحل الطفولة، وصولاً إلى أماكن العمل والجامعات والمعاهد العليا.
3- تصميم وتعميم دارسة برامج علمية وحقوقية عن العلاقات والحب والعدالة الجندرية وإعادة صياغة تعريفنا لمفاهيم الزواج والأسرة والتوقعات من الشريك/ة مستقبلاً.
4- إعادة النظر في أنماط السلوك ونهج التربية التقليديّة التي تقلّل من قيمة الفتاة و”تسجنها” أو تخنقها، ولو بالمعنى المجازي، داخل إطار مُعرّف مسبقا لمهامها وللتوقعات منها ولأهدافها المنشودة فقط لكونها أنثى.
أما على مستوى المسؤولية الفردية والشخصية للنساء والشابات في مجتمعاتنا العربية فهناك حاجة ماسة الى العمل على إعادة تأطير الأحلام والأهداف وإعادة تعريف لمفاهيم النجاح والسعادة وتحقيق الذات، كهدف بحد ذاته وكوسيلة لتطوير المجتمع بشكل تسود فيه العدالة والحقوق والاحترام والكرامة للجميع.
حينها ستتجاوز عبارة “انشالله نفرح فيكِ” فقط مسألة الزواج ولن تعني بالضرورة الفرح بعُرسِك وإنما الفرح بشهادتك أو حصولك على عمل تحبينه أو إنجازك المهني أو المجتمعي أو الوطني، والأهم البصمة التي ستتركينها لهذا المجتمع وللعالم بأسره.
وحينها، لن تقتصر خيارات المرأة العربية بين “نار” الزوج و”نار” الأهل، بل سنفتح الخيارات لتصوّر جنّة أخرى تحقق فيها كل منا ذاتها وتسهم في بناء مجتمعها بشغف وإبداعٍ وانتماء.
عن مقال لصفاء طميش بتصرف من هيئة التحرير